حول العالم

معجزة الهند الإقتصادية



 

الهند: مفلسة في التسعينيات وسادس أقوى اقتصاد في العالم اليوم، عدد سكانها يتجاوز المليار يتحدثون آلاف اللغات واللهجات.

دولة عانت الحروب والاضطرابات، لكنها خرجت من الفقر والكساد، لتحقق أسرع نمو اقتصادي في التاريخ الحديث.

كيف استيقظت الهند متأخرة ثم سبقت الجميع

تقع الهند في جنوب آسيا، وتعد ثاني أكثر بلدان العالم ازدحاماً بالسكان بعد الصين، وسابع أكبر بلد من حيث المساحة الجغرافية.

استقلت عن الاستعمار البريطاني عام ،1947 لتنقسم إلى دولتين الهند ذات الغالبية الهندوسية، وباكستان ذات الغالبية المسلمة.

لم تعرف الهند طعم الاستقرار طيلة عقود بعد الاستقلال، فقد شهدت نزاعات أهلية كثيرة ودخلت في ثلاث حروب مع جارتها باكستان.

كما حاربت العملاق الصيني، وهزمت أمامه عام ،1962 إثر نزاع حدودي غرب جبال الهيملايا.

الفيل النائم

بدأت الهند نهضتها الإقتصادية مبكراً، على يد حاكمها نهرو.

لكنها كانت نهضة خجولة، اقتصرت على استثمار موارد الدولة في التصنيع لتلبية حاجات السوق المحلية فقط، مع إهمال المنافسة العالمية في الأسواق الخارجية.

سياسات استمرت حتى تسعينيات القرن الماضي على يد الحكومات المتعاقبة، كان أساسها اتباع سياسات اشتراكية مغلقة، تركز الاقتصاد بيد الدولة، وتهمل القطاع الخاص.

ما جعل الدولة عاجزة عن الإستجابة  للتطورات الاقتصادية الدولية، وطبيعة الرأسمال الأجنبي والشركات العابرة للقارات.

فبقيت الهند مغلقة على نفسها سابحة في عالم الفقراء، وفوق كل ذلك ستتعرض الدولة لهزتين كبيرتين سياسياً واقتصادياً عام 1991.

هاتان الهزتان ستوقظان الفيل الهندي من سباته بدلاً من أن تقضي عليه.

الهزة الأولى

صدمة كبرى بعد اغتيال رئيس الوزراء راجيف غاندي أصغر رئيس وزراء في تاريخ الهند، وآخر أبناء أنديرا غاندي.

قتل على يد نمور التاميل عام 1991 ثأراً من مشاركته في الحرب ضدهم.

وفي موت راجيف لم يعد في سلالة غاندي التي حكمت الهند منذ الاستقلال عام 1947، من هو مؤهل للحكم.

الهزة الثانية

في العام نفسه من اغتيال راجيف، استيقظت نيودلهي على أكبر ازمة اقتصادية في تاريخها.

تقلص في احتياطات الدولة من النقد الأجنبي إلى أقل من مليار دولار، وتضخم تجاوز 17% سترتفع معه أسعار السلع والخدمات بمعدلات جنونية.

شهور قليلة سيصبح فيها اثنان من بين كل خمسة هنود يعيشون تحت خط الفقر. لم يعد في مخزون الدولة احتياطي نقدي، يكفي سوى لاسبوعين فقط، واستعد الجميع لسماع نبأ إفلاس الهند.

كان 1991 عام المصائب، لكنه أيضاً العام الذي سيقلب المحنة إلى منحة، فلحسن الحظ سيظهر الرجل المناسب في المكان والزمان المناسبين.

مانموهان سينغ

يعد مانموهان سينغ مهندس عملية الإصلاح الإقتصادي، التي أيقظت الفيل الهندي من سباته.

خريج في جامعة أوكسفورد وذو توجه ليبرالي رأسمالي، سيعين وزيراً للمالية في حكومة ناراسيما راو عام 1991. لتبدأ معه المعجزة.

كوّن مانموهان سينغ فريقه الخاص لإدارة الأزمة الإقتصادية، وكان إلى جانبه وزير التجارة المتمرس في هارفرد بلانبان تشيدامبارام.

وإلى جانبهم مونتيك سينغ أهلواليا، الذي شغل منصب الرئيس المفوض للجنة التخطيط القومي. ثلاثة أسماء ستنقل البلاد من دولة اشتراكية إلى الاقتصاد الحر.

الخطة: فلنفتح الأبواب أمام اقتصاد السوق

أدرك سينغ أن إعادة هيكلة الإقتصاد الهندي، باتت ضرورة ماسة، نظراً لفشل القطاع العام في تحقيق النمو، وتخفيف حدة الفقر.

فقرر تحرير الاقتصاد والإنفتاح على العالم، لجلب الإستثمارات الأجنبية.

ولتحقيق ذلك رفع العوائق التجارية وخفص نسبة الضرائب وكسر الاحتكارات الحكومية، وفكك معوقات الصناعة، وقضى على القيود البيروقراطية وشجع المنافسة.

خطوات ستؤدي لتدفق الاستثمارات، كما خطط سينغ تماماً. فانتعشت الزراعة والصناعة وقطاع الخدمات.

وفي المحصلة تقلص التضخم، وزاد نمو الاقتصاد الهندي بنسبة 7% سنوياً على مدار 5 سنوات متتالية.

رحل سينغ من منصبه عام 1995، لكن خطته ظلت قائمة. فقد أبقت الحكومات المتعاقبة على سياسته وسعت إلى تطويرها.

وخلال 10 سنوات تراجعت هيمنة الدولة على الاقتصاد، وأعطي الأجانب حق التملك الكامل، وخصخصت الكثير من الشركات الحكومية.

في قطاعات الصناعات الثقيلة والاتصالات والخدمات البريدية. ووصل الأمر حد تخصيص شركة الطيران الهندية نفسها.

وتمكنت البلاد بذلك من استقطاب كبرى الشركات العالمية في مختلف الصناعات، كالأدوية والتعدين وتكنولوجيا الفضاء.

لندعم المشاريع الصغيرة

ركز التوجه الجديد للاقتصاد الهندي على دعم المشاريع الصغيرة، كونها لا تحتاج إلى رأسمال كبير لإنشائها من جهة، وتسهم في تشغيل أعداد كبيرة من المواطنين من جهة أخرى.

فتمت مساعدة الشركات الصغيرة بالقروض والإعفاءات المالية، علاوة على منحها تسهيلات خلال عمليات التصدير والشحن الجوي، وتسويق المنتجات في الأسواق الخارجية.

سياسة بارعة ستسهم بمضاعفة حجم الإنتاج الصناعي بأكمله.

لننتج كل شيء

الهند التي  كانت منغلقة على ذاتها، أصبحت تصدر كل شيء، من الكيماويات والمنسوجات إلى معدات النقل والبناء، وصولاً إلى الماس والصناعات اليدوية والمنتجات الزراعية.

وتعد الخدمات التكنولوجية والمعلوماتية والبرمجيات، واجهة اقتصاد الدولة بصادرات سنوية تصل إلى 50 مليار دولار.

لم تترك الهند مجالاً في الصناعة إلا دخلته ونافست به ،حتى وصلت إلى إنتاج الأسلحة وصناعات الفضاء والتكنولوجيا النووية، وفوق كل ذلك صناعة السينما.

إمبراطورية بوليوود

الهند تتميز عن بقية الدول في نهضتها الاقتصادية بذهابها لتطوير كل شيء حرفياً. حتى السينما نفسها، التي كانت حكراً على هوليوود الأمريكية اقتحمها الفيل الهندي من أوسع الأبواب.

وصنعت علامة بوليوود الشهيرة، التي تنتج حوالي 1000 فيلم روائي طويل سنوياً، وتبيع قرابة 900 مليون تذكرة لدخول الأفلام الهندية عالمياً.

فريق الأحلام

عاد سينغ مرة أخرى للواجهة السياسية، حين أصبح رئيساً للوزراء في الهند بين عامي 2004-2008 وجاء بفريقه الاقتصادي الذي عمل معه في التسعينيات.

فعين وزير التجارة السابق تشيدامبارام وزيراً للمالية، ونصب مونتيك سينغ أهلواليا رئيساً لهيئة التخطيط القومي.

المجموعة نفسها عادت مجدداً لتواصل صناعة المعجزة.

الرقص مع العمالقة

تعتبر الهند مثالاً للدول الفقرة التي استطاعت العمل على زيادة ناتجها القومي، وتقليص عدد الفقراء، عبر تطوير الزراعة والصناعة واقتصاد المعرفة .

ومنذ عام 2003 وحتى 2010 حافظ اقتصادها على نمو بمعدل 8% سنوياً.

يبلغ حجم الاقتصاد الهندي 2.6 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يقفز إلى المرتبة الرابعة في أقوى اقتصادات العالم بحلول عام 2022.

لقد تمكنت الهند من انتشال ملايين المواطنين من تحت خط الفقر، فبين عامي 2005-2014 انخفض عدد الفقراء من 400 مليون إلى 270 مليوناً.

وتوقع اتحاد شركات التصدير الهندية أن ترتفع صادرات البلاد لتصل إلى نحو 350 مليار دولار بحلول عام 2019.

كانت الهند تعاني الحروب والكساد والفساد، شعب ممزق، أديان وأعراق ولغات مختلفة، ومشاكل لا تنتهي.

لكنها تغلبت على تلك التناقضات، حين جاء الرجل الذي يأخذ بيدها نحو الطريق الصحيح.

هكذا تبدو الصورة في الهند، أما في بلاد تنتمي إلى لغة واحدة ودين واحد فتبدو الصورة مغايرة تماماً.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى