نور الدين الزنكي : نتناول هذه الشخصيات الإسلامية العظيمة المبدعة في تاريخنا، ونستلهم منها القصص والعبر، والمعان، بل نستلهم منها منهج الإبداع.
وأحاول أن أنوع في هذه الشخصيات، أختار الشخصيات التي يسمع بها الكثير من شباب أمتنا، ولكن لا يعرفون عنها الكثير.
تجاوزت الحديث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة الكرام والتابعين، والكثير منهم شخصيته معروفة، واخترت هذه الشخصيات في مجالات مختلفة.
شخصيتنا اليوم عن اسم عظيم، من أعظم أسماء المسلمين، والقادة السياسيين والعسكريين، نور الدين محمود الزنكي، باني الوحدة الإسلامية.
ليس لدي شك بعد التأمل في تاريخ الأمة، أن نور الدين الزنكي، أعظم من صلاح الدين الأيوبي، وكيف يكون في هذا المستوى، وشبابنا لا يعرفونه.
وهو إذا عددنا القادة في تاريخ أمتنا، بعد الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبد العزيز، سيبرز لدينا اسمين، نور الدين الزنكي، ويوسف بن تاشفين.
الوضع السياسي قبل نور الدين الزنكي
ولد نور الدين الزنكي في السابع عشر من شوال، لعام 511 للهجرة، وتوفي في الحادي عشر من شوال، عام 569 للهجرة، في 1174 ميلادي، عن عمر 59 بعد أن غير الدنيا.
ظهر نور الدين محمود الزنكي، على مسرح الأحداث، في النصف الأول من السادس الهجري، والناس في أشد الحاجة إلى مثله، ليأخذ بيدهم من الظلام الدامس، الذي اكتنف بلاد الإسلام.
فلقد كانت هناك الحروب الصليبية، ودخل الصليبيين مدينة المقدس، وبيت المقدس، وعاشت الأمة في ظلام، وتمزقت الأمة.
في الحقيقة كانت الأوضاع في ذلك الوقت، أسوأ من وضعنا اليوم، لم تلمع في الأفق بوادر أمل، واشراقات الصباح، ولكن كانت الفوضى تعم بلاد المسلمين، وبالذات بلاد الشام.
فلقد كان الأمراء والحكام، مشغولون بأنفسهم وأطماعهم، والصليبيين والمحتلين، ارتفعت قاماتهم على خلافات المسلمين، بسبب تطاحنهم وتناحرهم وتنازعهم بين بعضهم.
بداية الأمل من العراق
جاء بصيص الأمل مع عماد الزنكي، عندما حكم الموصل، وثبّت أقدامه فيها، واستطاع بأن يمد سلطانه، من شمال العراق، إلى نصيبين وحران في الشام.
وهيء نفسه، ليقوم بحركة الجهاد ضد الصليبيين، وأدرك أن ذلك لن يتحقق، مالم تتحد القوى الإسلامية في العراق، والشام، فتطلع في البداية إلى حلب.
كانت حلب غارقة في بحر من الفوضى، بعد وفاة قائدها، عز الدين مسعود البرسقي، وتنازع على حكم حلب السلاجقة من جهة، والصليبيين من جهة أخرى.
تنافسوا على احتلال حلب، فتحرك عماد الدين الزنكي من الموصل، وأفسد على الطامعين خططهم، ووضع يده على حلب، في سنة 522 للهجرة.
ثم لم يلبث عماد الدين الزنكي أن تعثرت خطاه، بفعل الصراعات الداخلية، التي أشعلها بعض الأمراء ضده، فخافوا أن يسيطر على دولهم، التي هي المدن السورية.
السيطرة على مدينة الرها
مضى عماد الزنكي لفترة طويلة، يدفع تلك الأخطار عن نفسه منهم، واستطاع أن يبسط نفوذه، واحتاج الأمر إلى سبع سنوات ليفعل ذلك.
وعندما تفرغ منهم، تمكن من فتح مدينة الرها، في الشام سنة 538 للهجرة، فكان أبياً شجاعاً، يغار على حرمات المسلمين، ولكن لم يكد يمر شهر على استلامه الحكم.
حتى هاجم الصليبيون الرهى، ظناً منهم أن الحاكم الجديد ضعيف، فلم ينتظرهم أن يهجموا عليه، بل خرج لهم، وباغتهم، واستطاع عماد الدين الزنكي، أن يقتل ثلاث أرباع الجيش الصليبي.
كانت ضربة قوية للكيان الصليبي، لأن مدينة الرها، هي إمارة صليبية، تأسست في الشرق، قبل فتح القدس، والآن هو يهاجمهم من الرها.
ومنذ الحملة الصليبية الأولى، كانوا مسيطرين على الرها، ولكن عماد الدين زنكي، كما يقولون، لم يمهله القدر ليواصل أعماله، فجاء الغدر، في السادس من ربيع الثاني سنة 541 للهجرة.
واغتيل عماد الدين زنكي، الاسم العظيم في تاريخ الإسلام، على يد فرقة باطنية، تسمى الحشاشون، وهم فرقة صغيرة، كان لها أذى شديد، على تاريخ الإسلام والمسلمين.
بداية نور الدين محمود الزنكي
كان نور الدين ثاني أولاد عماد الدين الزنكي، بعد سيف الدين غازي، وتأثر أبناء عماد الدين الزنكي، لما كان لأبيهم من صفات، وفضائل عظيمة.
فكانوا جميعاً مثله، ولما توفي عماد الدين الزنكي، اقتسم ولداه دولته، واستقر سيف الدين غازي في الموصل، ونور الدين محمود انفرد بحكم حلب، وكان بينهما نهر الخابور.
وكلا الأخوين كان مؤهلاً لما سيواجهه من أقدار، فلقد كان سيف الدين غازي، صاحب سياسة وحكمة ومفاوضات، بينما نور الدين الزنكي يعشق الجهاد.
حكم نور الدين الزنكي في حلب
كان لديه عاطفة جياشة ومخلصاً لله عز وجل، صادق الإيمان وميالاً إلى جمع كلمة المسلمين، وتوحيدهم، واخراج أعداء الأمة من ديار المسلمين.
ونور الدين الزنكي كان مفطوراً على الرقة، ورهافة الشعور، وهذا ما جذب الناس إليه، وأحبوه كثيراً، ليس في حلب فقط، وإنما في جميع المدن والولايات.
وكان عليه أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، فاستهل حكمه في القيام ببعض الهجمات على انطاكيا، وكانت الامارة تحت سيطرة الصليبيين، وتهدد كل الشام.
فاستطاع أن يأخذ بعض القلاع التابعة لها، وقضى على محاولة جوستين الثاني، لاستعادة مدينة الرها، وهزم الصليبيين فيهاٍ، بأشد من هزيمتهم الأولى مع أبيه.
بداية انتصارات نور الدين الزنكي
انتشر الخبر في الأمة الإسلامية، فبعد سنين من الهزائم، أتت الإنتصارات، وعاقب نور الدين الزنكي الخونة من المسلمين والأرمن، الذين كانوا في الرها، المتعاونين مع الصليبيين.
وخاف بقية أهل البلد من النصارى على أنفسهم، ففروا منها، رغم أنه لم يقترب منهم، فهو لم يكن ظالماً، بل كان يعاقب الخونة فقط.
وكان نور الدين الزنكي، لديه هاجس آخر، أن يوحد المسلمين، فكان يفكر بتحرير فلسطين، التي كانت تحت سيطرة الصليبيين، وأعدادهم كثيرة جداً.
حاول استمالة القوى في شمال العراق والشام، ليكسب ودهم وصداقتهم، ليستطيع توحيدهم، في مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع نورد الدين أنر، حاكم دمشق لعام 521 للهجرة.
وأراد أن يوثق العلاقة بينهما، فتزوج ابنة حاكم دمشق، ولما تعرض لخطر الصليبيين، برغم أنه كان يوجد بينهم معاهدة، لكنهم هاجموه وهو حليفهم.
فلم يجد غير نور الدين الزنكي صهره، يستجير به، فخرج إليه نور الدين، واستطاع أن يقف أمام الصليبيين، وفتح بعدها بصرى وصرخند في الشام، قبل أن يقعا في يد الصليبيين.
ورجع إلى دمشق وغادرها مباشرة، حتى يبعث في قلب حاكمها، الطمأنينة والأمان، بأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين.
السيطرة على أنطاكية
توجه نور الدين إلى إمارة أنطاكية، واستطاع أن يسيطر على بعض القرى، التي تتبعها من حولها، فأثر هذا على ملك النصارى، وأثار الرعب في قلوب النصارى.
وأصبح نور الدين الزنكي بالنسبة لهم، شخص مخيف، فهو لا يقل كفاءة عن أبيه بوقته، فكانوا يظنون أنهم انتهوا منه، ولكن آمالهم تبددت، أمام شجاعة نور الدين الزنكي.
وكل ذلك وكان عمر نور الدين الزنكي 29 عاماً في ذلك الوقت، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير، خيراً كثيراً.
الحملة الصليبية الثانية
في عام 542 للهجرة، وصلت إلى فلسطين والشام، الحملة الصليبية الثانية، وهي من أخطر الحملات، بقيادة ملك فرنسا لويس السابع، وملك ألمانيا كونراد الثالث.
وكان هدفهم ليس استقرار حكمهم في فلسطين، وإنما السيطرة على الشام كلها، ولكن فشلت الحملة في تحقيق أهدافها، وتعرضوا إلى خسائر هائلة، على يد نور الدين الزنكي.
وعجزوا عن احتلال دمشق، ويرجع ذلك بعد فضل الله عز وجل، إلى صبر المجاهدين، واجتماع جيش المسلمين ووحدة صفهم، وتعاونت جيوش دمشق مع جيش حلب.
وكان للقوات التي جاءت مع سيف الدين غازي من الموصل، وأخيه نور الدين الزنكي من حلب، أكبر الأثر في فشل الحملة، التي جاءت على دمشق.
واستغل نور الدين الزنكي خسارة الحملة الصليبية، بعد أن استقر نفوه في الشام، وانضم إليه المسلمون من أنحاء العالم الإسلامي.
أن هاجم الإقليم المحيط بقلعة حارم، من أشد القلاع، وتقع على الضفة الشرقية لنهر العاص، وحاصر قلاع أخرى، فخرج ريموند دي بواتيه، صاحب قلعة أنطاكية لنجدتها.
والتقى الفريقان نور الدين الزنكي مع بواتيه، في الحادي والعشرين من صفر، سنة 544 للهجرة، واستطاع نور الدين الزنكي والمسلمون، من تحقيق النصر البالغ.
وأبادوا الصليبيين عن آخرهم، وقتل بواتيه نفسه، صاحب أنطاكية، وغيره من قادة الجند، وفرح المسلمون بهذا النصر العظيم.
فلأول مرة منذ سقوط فلسطين، بيد النصارى، ينتصرون، ويعود المد الإسلامي، والانتصارات الإسلامية.
ولكن ظلت دمشق المشكلة، فكانت في يد حاكم لديه تحالف مع النصارى، فآمن نور الدين الزنكي، بضرورة وحدة الصف، لمواجهة النصارى في فلسطين.
فكان لا بد من توحيد القوى الإسلامية المبعثرة، بين الفرات والنيل، لتقف أمام أطماع الصليبيين، ويقدر الله عز وجل، أن يموت حاكم دمشق أنر.
وتولى بعده مجير الدين آبق، فحكم دمشق، وجرى على سياسة أنر في التعامل مع الصليبيين، وتذلل لهم، وأظهر لهم الضعف، وأعرض عن وحدة الصف.
وبلغ الهوان به، أن وافق على دفع أهل دمشق، جزية سنوية للصليبيين، مقابل أن النصارى في فلسطين، يحمون دمشق من نور الدين الزنكي.