كوريا الجنوبية : من مكب نفايات وشعب أمي لا يعرف القراءة أو الكتابة، إلى رابع أقوى اقتصاد في آسيا، حولت نهضته مكبات النفايات لحدائق، ويمتلك شعبه أفضل نظام تعليمي في العالم، في دولة اسمها كوريا الجنوبية.
سنتعلم كيف يمكن لزهرة أن تنمو من بين الركام.
النهضة الاقتصادية في كوريا الجنوبية
إثر إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، استقلت كوريا بعد احتلال ياباني دام 35 عاماً.
ولكن تم تقسيمها إلى منطقتي نفوذ بين الشيوعيين، بقيادة الإتحاد السوفيتي والصين، والرأسماليين بقيادة الولايات المتحدة.
جزءٌ جنوبي وجزءٌ شمالي، سيتحول كل منهما لدولة بعد حرب أهلية، برعاية القوى العظمى.
كيف ولدت كوريا الجنوبية
(نحن متحدون في محاربة العبودية الشيوعية، نحن نعلم أن ثمن الحرية باهظ، ولكننا مصممون على الحفاظ على حريتنا، مهما يكن الثمن)
بدأت الحرب عام 1950 وانتهت عام 1953، خلفت وراءها خمس ملايين قتيل. كوريا الجنوبية ولدت إذاً وغنمت كوريا الشمالية معظم الصناعة والتعدين، و80% من توليد الطاقة الكهربائية.
دولة ولدت لتكون ضعيفة، صنفت وقتها كواحدة من أفقر دول العالم. نساؤها كن يبعن شعرهن الناعم كباروكات لغيرهن، حتى لا يموت أطفالهن جوعاً، وأرضها كانت بلا موارد طبيعية كبيرة. وشعبها بلا تعليم يذكر.
90% من سكانها يعيشون على المساعدات الأميركية، لا شيء يدعو للتفاؤل، فما العمل؟
بداية البداية بداية الأمل في كوريا الجنوبية
رئيس كوريا الجنوبية وقتها كان يدعى يي سونغ مان. قام هذا الرجل بإحداث ثورتين، الأولى في الإصلاح الزراعي، والثانية والأهم في التعلي.
فقد ازدادت نسبة الالتحاق بالتعليم العالي 10 أضعاف، وبات 96% من الأطفال يذهبون إلى المدرسة، وأصبح لدى كوريا أواخر الخمسينيات قوة عمل متعلمة.
لم تحصد البلاد ثمرة الجهود سريعاً، فالزراعة لم تكن كافية لبناء ثروة، وظل دخل المواطن الكوري أقل من نظيره في اليمن، و40% من السكان كانوا تحت خط الفقر، لكن هذه الأرقام مع حلول عام 1961 ستبقى للذكرى فقط.
في ذلك العام وقع إنقلاب عسكري بالتأكيد، ليس كالإنقلابات التي نعرفها في عالمنا العربي، فحتى حظوظ العرب في كوارثهم مزرية.
قاد إنقلاب كوريا الجنوبية عسكري مستبد ومستنير، يدعى بارك تشونج هي، سينتشل كوريا الجنوبية من الفقر إلى الثراء.
بداية المعجزة
أسس بارك مجلساً للتخطيط الاقتصادي، أمم البنوك، وشجع الصناعات المتوسطة لزيادة التصدير، ضمن خطة خمسية مذهلة.
كان الهدف تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 7.1% ما بين عامي 1962 و 1966، سَخِرَ الأمريكيون من الرقم، واعتبروه أحلاماً مجنونة.
لكن ما تحقق فعلياً فاق أحلام الأمريكيين أنفسهم. فقد تجاوز النمو 8.9% وأذهل الجميع. لم تتوقف كوريا الجنوبية، فالصناعات ازدادت بمعدل 15% سنوياً، والصادرات تتصاعد بمعدل 36% كل عام.
كان اهتمام بارك منصباً على المهارات التقنية، بهدف تحويل البلاد إلى دولة صناعية تنافس كوريا الشمالية.
لذلك طبّع العلاقات مع اليابان عام 1965 بهدف تحقيق الهدف التالي، وهو أن تفعل كوريا الجنوبية ما فعله اليابانيون ولكن بتكلفة أرخص وبوقت أقل.
وبالفعل وبعد سنتين فقط، صُنعت أول سيارة كورية جنوبية من نوع هيونداي، وانطلقت معها شركة دايو الشهيرة، وفي أواخر الستينيات أصبحت سامسونج أفضل شركة لتصنيع التلفزيون عالمياً.
زراعة أقل وصناعة أكثر، وسلطة مطلقة، بارك قدّم التنمية على الديمقراطية، تحت حجة قديمة تقول: ما فائدة الديمقراطية لأفواه جائعة؟
لذلك استبد بالسلطة رسمياً عام 1972 بعد ثلاث ولايات رئاسية، وبالتزامن مع ذلك أطلق برنامجاً للتصنيع الثقيل، ستتحول معه كوريا الجنوبية في غضون عشر سنوات، إلى أكبر مجمع لصناعة الفولاذ في العالم.
والأرض الأم لثاني أكبر شركة لبناء السفن على وجه الأرض، بدخل يصل إلى 26 مليار دولار سنوياً، دولة ستصنع كل شيء بسواعد وعقول أبنائها.
رحيل الأسطورة
اغتيل الرئيس بارك تشونغ هي أواخر عام 1979، ووقع انقلاب عسكري قاده شون دو-هوان. ما أحدث إضطرابات سياسية ترافقت مع تراجع اقتصادي بمعدل 6% وتضخم بلغ 44%.
لكن عادت عجلة النمو تحت ظل الحكم العسكري الاستبدادي، ووصل ذروته كأعلى معدل في العالم آنذاك، ما بين عامي 1986 و1988.
في تلك الآونة تحولت كوريا الجنوبية رسمياً إلى دولة ديمقراطية، حرة ونزيهة للمرة الأولى منذ عام 1960.
سر نهضة كوريا الجنوبية
كان أحد أهم أسرار النهضة الكورية شيء إسمه شايبول، مصطلح يطلق على الشركات الكبيرة، التي تديرها عائلة واحدة، مثل سامسونج وهيونداي وإل جي.
بدأ الشايبول عام 1961 وكانت فكرته باختصار تقوم على أن قوة الشركات من قوة الدولة. والحكومة ستشارك رواد أعمال من العائلات الكبيرة، وتدعمهم بالمال وتخفف عنهم الضرائب. من ينجح يكافأ ومن يفشل تتخلى عنه الحكومة.
نموذج اقتصادي فريد سيجعل من الشركات الخاصة، عماد وقوة اقتصاد البلاد بأسرها، حتى هذه اللحظة.
الأزمة المالية في كوريا الجنوبية
عام 1997 وقعت أزمة النمو الآسيوية والانهيار الاقتصادي. بدأ في تايلاند وضرب الفلبين وسنغافورة وكوريا الجنوبية.
فاضطرت كوريا لاقتراض 58 مليار دولار من البنك الدولي، وبدا أن كل شيء سينهار. لكن وراء كل أمة عظيمة شعب عظيم.
ما فعله الكوريون الجنوبيون في الأيام التالية للأزمة المالية، يكاد لا يصدق. نزلوا إلى الشوارع يتبرعون بما لديهم من ذهب، وجمعوا لبلدهم المليارات.
لم تكن التضحية فردية فحسب، فالشركات الصغيرة ضحت بنفسها أيضاً، واندمجت بالكبيرة الصامدة، حتى لا ينهار الجميع.
تضحيات ستكافئها الأقدار، ففي غضون ثلاث سنوات ستسدد كوريا الجنوبية قرض البنك الدولي، وستقفز عائدات صادراتها الخارجية إلى 99 مليار دولار عام 2001.
كوريا الجنوبية اليوم
هي ثالث أكبر مصدّر لأشباه الموصلات في العالم، التقنية التي لا غنى عنها لكل الأجهزة الحديثة.
تعد من أفضل الديمقراطيات حالياً، وفيها ستجد تقنية ويماكس آكسس، التي توفر لك سرعة انترنت تصل إلى 1 جيجابايت في الثانية، يعني تحميل فيلم طويل بسرعة الضوء.
تنافس في السيارات والهواتف المحمولة، وجميع أنواع التقنية الحديثة، تصنّع السفن والأسلحة الثقيلة، تحتل المراكز الأولى ببراءات الإختراع سنوياً، اقتصادها يضيف مابين 180 إلى 300 ألف وظيفة كل عام، وتسجل صادرات تقدر ب 560 مليار دولار في السنة.
أما العامل فيها فأقل أجر يحصل عليه يساوي 7.40 دولار في الساعة أي ما يزيد عن 1500 دولار في الشهر.
لم يمتلك الكوريون الجنوبيون أي عصا سحرية، هم يشبهوننا بماضيهم، بحروبهم وإتكالهم على المعونة والحماية.
لكنهم يختلفون عنا كثيراً اليوم، لقد تعلموا كيف يصنعون آلاتهم وأسلحتهم وهواتفهم، وتلفزيوناتهم وسياراتهم بأيديهم.
المصادر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com