بلال بن رباح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه، الحبشي أحد السابقين الأولين، وأحد من هانت نفسه في الله وأحد من أوذي في الله أذى شديداً.
شهد بدراً رضي الله عنه، وما بعدها من المشاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وروى أحمد في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب وبلال والمقداد.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون،
فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وقد واتاهم على ما يقولون إلا بلال.
فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، وأعطوه للولدان فكانوا يطوفون به في مكة وهو يقول أحد أحد.
ومر أبو بكر رضي الله عنه بأمية بن خلف وهو يعذب بلالاً، فقال له أبا بكر: أما تتقي الله في هذا المسكين، فقال له أمية: أنقذه مماهو فيه. فأعطاه أبو بكر عبداً له كان كافراً، وأخذ بلالاً فأعتقه.
رحيل بلال بن رباح من المدينة
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبى بلال بن رباح أن يسكن في المدينة بعد أن أظلمت منها الأرجاء بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأراد أن يخرج منها فأبى ابو بكر رضي الله عنه أن يسعفه، فقال له بلال: إن كنت اشتريتني لنفسك فامسكني وإن كنت اشتريتني لله فدعني وعملي لله.
فتركه فاستوطن الشام إلى أن مات بها رضي الله عنه سنة عشرين.
ولما حضرته الوفاة جعل يرتجز ويقول: غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه، فتصيح امرأته وتقول: واويلاه ويقول هو وافرحاه.
بعض الأدباء ذكر طريفة يقول:
أبو بكر حباه الله مالاً وحين دعي أجابنا عن بلا لا
وقد واسى النبي بكل خير وأعتق من ذخائره بلالا
لو أن البحر أبغضه اعتقاداً لما أبقى الإله به بلالا
إكلأ لنا الصبح
إكلأ لنا الصبح أي احفظه. كلأه يكلأه كلاءً وكلاءة إذا حفظه ومنه قول ربنا سبحانه وتعالى: قل من يكلأكم بالليل والنهار من الرحمن.
ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكلأ بلال ما قدر له ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر، فغلبته عيناه.
كلأ بلال بن رباح رضي الله عنه، ما قدر له ولما تعب من القيام استند إلى راحلته مقابل الصبح إمعاناً في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يكلأ له الصبح فغلبته عيناه.
فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من الركب حتى ضربتهم الشمس.
يعني ما ايقظهم إلا حر الشمس في ظهورهم، هنا قد يشكل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام، حتى طلعت الشمس ولم يوقظه إلا حرها.
قد يشكل على هذا ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.
فكيف نام هنا حتى لم يوقظه إلا الشمس، حديث عائشة له محامل. قالوا من محامله يمكن أن يحمل على أنه الأغلب من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنه لا ينام قلبه إنما تنام عيناه وقد يجوز أن ينام قلبه مرة ومنا ما وقع في الوادي. وبعضهم يقول لا، إنما المحمل إنما عيناه تنامان ولا ينام قلبه لأن والحي لا ينقطع عن الأنبياء ولو ناموا.
( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك )
وكان هذا وحياً، وقد كان الصحابة لا يوقظون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام، لأنهم يعرفون أنه يوحى إليه وإن نام.
فكانوا يخشون إذا أيقظوه أن يقطعوا عليه وحيه، وليس في هذا حديث الوادي، إلا أنه نامت عيناه عن رؤية الشمس وليس فيه أن قلبه قد نام.
من أمثال العرب
لما تكلمنا عن أسرى وسرى، نسيت أن أذكر لكم مثلاً من أمثال العرب السائرة، العرب تقول: عند الصباح يحمد القوم السرى، أي مسير الليل.
تضربه العرب للصبر على المكابدة لما في عواقبها من جميل المحامد.
الناس تصبر على المسير بالليل ويكابدون شدائده فإذا طلع النهار ونظروا رأوا م ا خلفوا من البعد حمدوا ممشاهم بالليل فيحمدون سراهم
ومثل هذا المثل قول العرب غمرات ثم ينجلين، وقد وقعت مسألة مثل هذه.
أبو عمر بن العلاء تعرفونه أحد أئمة البصرة في القراءة وأحد أئمتهم في النحو وتنسب إليه قراءة منشورة، جاءه اليزيدي الذي يروي عنه القراءة ومن طريقه أخذ الدوري والسوسي.
جاءه مرة وكان اليزيدي مؤدب أولاد أمير المؤمنين، ومن يعتاد هذا ينصرف عن الاشتغال بالعلم إلى الاشتغال بالتدريس والتأديب.
فحضر مرة مجلس شيخه أبي عمر فسمع شيئاً أشكل عليه فعارض شيخه فيه فقال له أبو عمر: نمت وأدلج الناس. أي ساروا في الدلجة فقطعوا وبلغوا مواضعهم وما زلت تستشكل أنت.
وكما يقول الزمخشري تلك الأبيات المشهورة:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من لثم غانية وطول عناق
وتمايل طرباً لحل عويصة أشهى من الدوكاء والعشاق
إلى أن يقول:
فأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذلك لحاق
ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
فزع رسول الله عليه الصلاة والسلام
حاول العلماء أن يبينوا سبب فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا إنما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فاته من وقت الصلاة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يبلغ الغاية في عبادته لربه، فلما استيقظ ورأى أن وقت الصلاة قد فات، فزع، ولم يكن أوحي إليه حينئذ بما يصنع من فاتته وقت الصلاة.
وهذا هو الأظهر في فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء إنما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد أن بلالاً لا يكلأ ولا يحفظ، وربما أدركهم بعض المشركين الذين غزوهم.
أنتم تعرفون القصة، قصة ذلك الذي لما أمر النبي أحد الصحابة وكانوا في منقلبهم من غزو بأن يكلأ وقد تبعهم بعض المشركين فضرب ذلك الذي كان يحرس الجيش بسهم وثان وثالث إلى آخره.
قد نذكر القصة إن شاء الله في موطئ آخر.
فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وما وجد أحداً يكلأ وربما يدركهم المشركون، سيكون هذا شديداً وقد يقتلون منهم مقتلة، قال بن عبد البر هذا لا معنى له.
وقد صدق بن عبد البر رحمه الله لأن هذا وقع في منقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، ولم يتبعهم أحد.
فقال بلال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
اعتذار بلال بن رباح
هذا اعتذار بلال بن رباح رضي الله عنه، واقع الأمر أنه لم يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له رسول الله: إكلأ لنا الصبح، وواقع الأمر أن بلالاً لم يكلأ.
لكن هو يحب أن يعتذر بعذر يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
إذا كنت أنت وأنت رسول الله في مكانك الذي من الله، قد أخذ الله بنفسك فنمت، فأنا أولى بأن يأخذ الله بنفسي.
هذا وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره، هذا في ملحظ لكثير من الناس، يقع هو في الشيء، ويريد أن ينبهه أحدهم على شيء يتذكره.
يقول: يا فلان ذكرني بكذا، فينسى هو وينسى الذي طلب التذكير. فإذا قيل له، يا فلان أنسيت؟ فيقول أنت أيضاً نسيت.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العذر، هذا فيه ملحظ،( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ). صلى الله على رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتادوا.
اقتادوا، أي ابعثوا رواحلكم، وقد فعلوا، وهذا استشكله العلماء. المقرر عندنا في الفقه أن من نام عليه صلاة يجب عليه أن يصليها متى ما استيقظ.
هذا كالوقت وقتها، فكيف يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتياد. فقال ابن وهب رحمه الله صاحب مالك: هذا الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم منسوخ.
وأقم الصلاة لذكري
ما الذي نسخه، نسخه قول الله تعالى: ( وأقم الصلاة لذكري ). لكن هذا القول فيه نظر، لأن الآية مكية وهذه القصة وقعت في السنة السابعة من الهجرة، فلا ينسخ المتقدم المتأخر.
ثم إنه لا يلجأ إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع، والجمع هنا متأت، وقالوا في أوجه الجمع، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم اقتادوا، لأنه أراد أن يصلي الجيش جميعاً.
ولو لم يأمرهم بالاقتياد، وأمر بلالاً مثلاً بأن يؤذن ويقيم، والناس ساروا ليلاً وما استراحوا إلا في آخر الليل فالأذان والإقامة قد لا يوقظ معظم الجيش، قد يبقى معظم الجيش نائماً.
فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام بعضهم، والأمر بالاقتياد يعم أولهم وآخرهم، فلا يبقى أحد منهم نائماً، قالوا هذه علة الاقتياد.
حكم الوادي والصلاة الفائتة
ليس هذا أمراً مضطرداً يجب أن يقاس عليه، وهذا وإن كان فيه وجه من النظر، فالظاهر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتياد، أنه وادي حضره فيه شيطان.
وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك وقال هذا وادي حضرنا فيه شيطان، وهذه العلة لا يقاس عليها.
لايمكن لمن حصل له مثلاً عرس في موضع ونام ولم يوقظه إلا حر الشمس أن يبدل مكانه، ويقول: هذا وادي، أو هذا موضع حضرني فيه شيطان، لأنه لا علم له بذلك.
والأصل علمه لما وصل إليه علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلك العلة لا يمكن أن يقاس عليها.
وإذا وقع لنا، إذا نمنا في وادي وأيقظنا حر الشمس، فالواجب علينا أن نصلي، وليس يجب علينا أن ننتقل.
بل قال بعض العلماء:
لو نمنا في ذلك الوادي الذي نام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع لنا مثل ما وقع لرسول الله، ولم يوقظنا إلا حر الشمس، فإنه متى ما استيقظنا فإنه يجب علينا أن نصلي ولا نقول هذا فيه شيطان.
لأننا لا ندري هل الشيطان بقي فيه أم غادره، لا علم لنا به، ولذلك لا نترك الواجب الذي عمرت ذممنا يقيناً به، نتركه لعلة لا ندري هل هي باقية وأم لم تبق.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والحمد لله رب العالمين.
هذا كان من أمر بلال بن رباح في أمر الكلأ.
المصادر
جميع الحقوق محفوظة لموقع ماكتيوبس للنشر والتوثيق 2020 / MakTubes.com
شاهد أيضاً