حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، هذا الصحابي الجليل كان ترباً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أي قريباً في السن منه، يوم كانا صبيين يدرجان في شعاب مكة.
وكان أخاً له من الرضاع، حيث تغذيا من ثدي واحد، وكان يتصل به بأوثق وشائج القربى، ذلكم هو حمزة بن عبد المطلب عم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وسيد شهداء المسلمين.
كان حمزة بن عبد المطلب يوم نبئ الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، قد جاوز الأربعين قليلاً.
وكان يومئذ سيداً من سادات قريش المعدودين وصنديداً من صناديدهم المرموقين. تحسب له مكة ألف حساب، ويكن له أهلها الحب المشفوع بالتجلة والإعظام.
وعلى الرغم من الصلات الواشجة بينه وبين رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه لم يعر دعوته كبير اهتمام، ولم يسلم حين أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين.
قصة إسلامه
وقد كان الفارس الهاشمي صاحب صيد، وفيما كان ذات يوم راجعاً من صيده، متنكباً قوسه عارضاً رمحه يمشي مشية الزهو والخيلاء، إذ اعترضته مولاة لعبد الله بن جدعان وقالت له:
لو أنك يا أبا عمارة سمعت ما سمعته من سباب أبي الحكم لابن أخيك محمد، تعني أبا جهل، ورأيت ما رأيته من هجمته عليه، لكان لك اليوم شأن آخر.
فما كادت كلماتها تلامس سمعه، حتى استشاط غيظاً وتميز صدره حمية، وسأل الفتاة عما إن كان قد رآه أحد وهو يسبه، فقالت: لقد رآه ناس كثير.
فعاد الفارس الهاشمي أدراجه، ويمم وجهه شطر الصفا، حيث كان أبو جهل يتوسط حلقة القوم، فأقبل عليه وضربه بقوسه ضربة شجت رأسه وأسالت دمه.
ثم أعلن إسلامه على رؤوس الأشهاد وجهر بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال متحدياً: هأنذا قد أسلمت، وإذا كان في وسع قريش أن تردني عن الإسلام فلتفعل.
ولما رأى بنو مخزوم دماء سيدهم أبي جهل تنزف من رأسه وتغطي وجهه، نهضوا إلى حمزة بن عبد المطلب يريدون أن ينالوا منه.
فما كان من أبي جهل إلا أن قال لهم: دعوا أبا عمارة فقد أهنته في ابن أخيه حين سببته وشتمته على ملأ من الناس.
وقوع نبأ إسلامه في نفوس الناس
وفي لمح البرق ذاع نبأ إسلام حمزة في مكة، فوقع ذلك الخبر على المشركين وقوع الصاعقة.
أما رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فحدث بما شئت عن فرحته بإسلام عمه ولا حرج. وأما المسلمون فقل ما طاب لك القول عن بهجتهم، عن إنضمام صنديد قريش إليهم.
فهم عرفوا في مكة يومين أبهج على قلوبهم وأعز على نفوسهم هما يوم إسلام عمر بن الخطاب، ويوم إسلام حمزة بن عبد المطلب .
فما إن أسلم، حتى عزم على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يخرج إلى الكعبة ويطوف بها ويؤدي صلاته عندها على مسمع ومرأى من قريش.
طواف الرسول بالكعبة
واستجاب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج في حراستهما، أحدهما أمامه والآخر وراءه حتى بلغ الكعبة المعظمة.
فطاف بالبيت سبعاً وصلى الظهر عنده آمناً مطمئناً، ثم انصرف إلى دار الأرقم وعيون قريش تنظر إليه وقلوبهم تميز غيظاً منه وضغينة عليه.
ولما هاجر الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة، كان أول لواء عقده لعمه حمزة بن عبد المطلب وهو أول لواء عقد في الإسلام.
بلاءه في غزوة بدر
وفي يوم بدر أبلى حمزة في قتال المشتركين أشد البلاء وأعظمه، فكان ثقيل الوطأة على المشركين شديد النكاية به.
فما إن التقى الجمعان في ذلك اليوم الأغر، حتى برز حمزة كالجمل الورق، وقد وضع على صدره علامة تميزه عن غيره وتدل عليه من أراد أن يقصده.
وكانت علامته ريشة نعامة حمراء أثبتها على صدره، وهنا خرج من بين صفوف المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيء الخلق، فقال:
وعاهدوا اللات والعزى لأشربن من حوض المسلمين أو لأهدمنه أو لأموتن دونه.
فبرز له حمزة رضوان الله عليه، وضربه ضربة أطارت ساقه، فوقع على ظهره والدماء تشخب منه، ثم جعل يحبو نحو الحوض ليبر بيمينه، فأجهز عليه حمزة قبل أن ينال مبتغاه.
مواجهته بني ربيعة
ثم خرج من بعده عتبة بن ربيعة ومعه أخوه شيبة وابنه الوليد، فلما فصلوا عن الصف، دعوا إلى المبارزة، فنهد إليهم في لمحة الطرف ثلاثة فتية من الأنصار كأعواد الرماح.
فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فقالوا: جماعة من الأنصار. فقال: إرجعوا مالنا بكم حاجة. ثم نادوا: يا محمد أخرج لنا الأكفاء من بني قومنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة بن عبد المطلب، وقم يا علي بن أبي طالب. فقال عتبة: الآن نعم، أكفاء كرام.
فقام علي إلى الوليد بن عتبة وكانا شابين متشابهين فقتله، ثم قام حمزة بن عبد المطلب إلى شيبة بن ربيعة وكانا متقاربين سناً فقتله.
وقام عبيدة بن الحارث إلى عتبة بن ربيعة وكانا شيخين فقتله، ثم استشهد عبيدة متأثراً بجراحه.
وما أن قتل أبطال قريش الثلاثة في لحظات معدودات حتى حمي وطيس المعركة، وأبلى حمزة بلاءً ملأ قلوب المشركين حقداً عليه وكيداً منه.
بلاءه في غزوة أحد
وفي غزوة أحد كان المشركون يريدون الإنتقام من قاتل رجالاتهم عامة، ومن حمزة خاصة، بعد أن أذل حمزة كبريائهم في غزوة بدر، وقتل من أقيالهم وأشرافهم من قتل.
ولما رأى حمزة الهزيمة التي حلت بالمسلمين، هاج وماج وجعل ينادي: أنا أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني أبا سفيان وأصحابه.
وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأخذ رضي الله عنه يعمل السيف يميناً ويساراً في أعداء الله حتى نال الشهادة على يد غلام حبشي يدعى وحشي. ناله غيلة على حين غرة.
تمثيل هند بنت عتبة بشهداء المسلمين
ولما علمت نساء المشركين بمصارع أبطال المسلمين، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب هرعت طائفة منهم وعلى رأسهن هند بنت عتبة.
التي قتل أبوها وأخوها وعمها في غزوة بدر، عتبة وشيبة والوليد. على يدي حمزة بن عبد المطلب وجنود المسلمين.
فجعلت هند تجوس بين القتلى فتبقر البطون وتسمل العيون، أي تخرجها من موضعها، وتقطع الآذان وتجدع النوف، وأعطت ذهبها وحليها لوحشي الذي قتل حمزة مكافأة له على قتله لحمزة.
ولما بلغت هند حمزة رضوان الله عليه، شقت صدره واجتثت كبده ومضغته فلم تسغه فلفظته، ومن هنا دعيت بآكلة المرار.
صبر صفية على التمثيل بأخيها حمزة
ولما انجلى غبار المعركة وشاع خبر التمثيل بالمسلمين، خيم على المدينة حزن عميق وأقبلت صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لترى ما حل بأخيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام، إلقها فأرجعها حتى لا ترى ما بأخيها. فبادر إليها وقال: يا أم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك بالرجوع.
قالت: ولم، لقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله، والله لأصبرن وأحتسبن إن شاء الله. فأخبر الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالت، فقال: خل سبيلها.
فأتت أخاها، فنظرت إليه، وصلت عليه، واسترجعت واستغفرت له، ثم قالت: هذان ثوبان جئت بهما ليكفن بهما.
كفن حمزة بن عبد المطلب
قال الزبير: فلما هممنا أن نكفن حمزة بهما، فإذا إلى جنبه رجل شهيد من الأنصار، مثل به كما مثل بحمزة، فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له.
فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، ثم نظرنا فإذا أحد الثوبين أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما فكفنّا كل واحد منهما بالثوب الذي صار له.
وكان حمزة رجلاً طوالاً، فإذا ستر الثوب رأسه بدت رجلاه، وإذا ستر رجليه بدا رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام غطوا رأسه بالثوب واجعلوا على رجليه بعضاً من ورق الشجر.
يمين رسول الله ونزول آية عن القصاص
ولا تسأل عن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه، فقد نظر عليه الصلاة والسلام إلى مشهد لم ير أوجع منه، فقال: رحمة الله عليك، لقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات.
أما والله لأمثلن بسبعين منهم إن ظفرت بهم، فنزل عليه جبريل قبل أن يبرح مكانه بقوله جل وعز: وإن عاقبتهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وأمسك عن ذلك. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهداء فدفنوا جماعات جماعات وقال: أنظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه.
ثم أشرف عليهم جميعاً وقال: أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون دم والريح ريح المسك.
حمزة لا بواكي له
ولما واراهم الرسول صلى الله عليه وسلم ترابهم، عاد إلى المدينة أسوان حزيناً، فمر بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل.
فسمع بكاء النساء ونشيجهن على قتلاهم، فأهاج حزنهن حزنه، وأثارت لوعتهن لوعته صلى الله عليه وسلم، فطرفت الدموع من عينيه الكريمتين. وقال: ولكن حمزة لا بواكي له.
فسمع رجال الأنصار كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحزت في نفوسهم وأمروا نساءهم أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلوات الله عليه، ليبكين عمه.
فلما سمع الرسول صلوات الله عليه وسلامه بكاءهن، قال: رحم الله الأنصار. وقال للنساء: ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن وعزيتن.
رحم الله حمزة بن عبد المطلب وجميع شهداء المسلمين وجمعنا بهم على خير.