حكم الجهر بعد الصلاة بالأذكار في المسجد : قال ابن عباس رضي الله عنه في البخاري: كان الجهر بالذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، دبر الصلوات المكتوبة.
فهل يمكن أن يؤخذ من هذا الحديث مشروعية الجهر بالذكر، دبر الصلوات المكتوبة؟ وهل يمكن أن يقال عنه أنه من السنة؟
ما هو حكم الجهر بالذكر بعد الصلاة في الأحاديث؟
إذا نظرنا إلى مجموع ما جاء في الأوراد المتعلقة بالأذكار الواردة، بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جهة والأحاديث التي رويت عن النبي الكريم من جهة أخرى.
نقول أن مجموع الأحاديث التي جاءت، على الحض على الذكر بأشكاله وأنواعه دبر الصلوات، فإن هناك أحاديث أخرى، جاءت تنهى عن رفع الصوت بالذكر.
منعاً للتشويش على الذاكرين أو المصلين، ونخرج بالنتيجة التالية، وهي أن ما جاء في النوع الأول من أحاديث الأذكار والأوراد بعد الصلاة.
مما يفيد أن الجهر بنوع من الذكر، كان في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كحديث ابن عباس هذا.
وجب علينا التوفيق بينه، وما قد يكون في معناه، وبين الأحاديث التي تنهى عن رفع الصوت بالذكر، وأهمها ما رواه الإمام مالك في الموثق، وأبو داوود في سننه وغيرهما.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سمع مرة أصوات في المسجد، فأزاح الستار وقال: يا أيها الناس لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة فتؤذوا المؤمنين.
فإذا كان هذا الحديث صريحاً في النهي عن الجهر، ومعللاً بعلة واضحة معقولة المعنى، وهي أن لا يشوش الجاهر بالذكر عقب الصلوات، على المصلين في المسجد.
كان حينذاك من الضروري أن يحمل حديث بن عباس، وما قد يكون في معناه، مما يدل على أن جهر النبي صلى الله عليه وسلم، كان يذكر بعد الصلاة جهراً.
ينبغي أن يحمل هذا الحديث، أنه كان من أجل التهذيب، ولم يكن ليتخذ سنة، لأن ذلك ينافي المبدأ الذي جاء ذكره، في حديث الموطأ وغيره.
لماذا قد يتأذى المصلين من جهر الإمام بالذكر؟
لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة فتؤذوا المؤمنين، وهذا الإيذاء يلمسه الفاحص الزاهد لمس اليد، حينما يكون أحد المصلين مسبوقاً بركعة أو بأخرى.
فيقوم الناس يجهرون بالذكر دبر الصلاة، فلا يعرف هذا المصلي كيف يتم صلاته، لكثرة ما يحيط به من التشويش عليه، بسبب رفع الصوت بالذكر.
والإيذاء كما لا يخفى على أحد، إيذاء معنوي وهو التشويش على المصلين، وعلى التالين والذاكرين فإن من الملاحظ ما ذكرته بداية.
الذاكرين يريدون أن يأتوا ببعض الأذكار، فبعض الناس يقولون عقب الصلاة: أستغفر الله ثلاثاً ثم يقولون: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
والحديث يقول، أن الصحابة كانوا يعرفون انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، برفع الصوت بالتكبير السابق.
ويشير هذا الحديث إلى التهليل الذي يداخله شيء من التكبير، وعلى ذلك إذا رفع الإمام صوته بشيء من الذكر، فالمصلون إما أن يتابعوه ويمشوا معه في ذكره الخاص، أو يتركوه.
الأذان الجماعي ورفع الصوت
وهنا يرد موضوع الذكر المسمى الجوق، وهو معروف في سورية، أي ذكر جماعة، أي كأن يأذن خمسة أو أكثر، من مئذنة أذان واحد بصوت واحد.
وبعد أن وجدت مكبرات الصوت، لا زالوا يستمرون على هذه البدعة، وهي بدعة الجوق، وكذلك يجتمعون في بعض المساجد على التهليلات العشر المشروعة، دبر صلاة المغرب والعشاء.
بصوت واحد جهراً، لا شك أن في هذا تشويش، إما على المسبوقين أو التالين، أو الذاكرين بأذكار غير الذكر الذي يرفع الإمام صوته به.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالذكر
فإذاً الجمع بين هذا الحديث والأحاديث التي تنهى عن التشويش على المصلين أو التالين، إنما هو كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله.
أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته للتكبير، وذلك كان من أجل التعليم، وكان تشريعاً زمنياً لحكمة واضحة، وهي تعليم الناس ما ينبغي أن يقولوه بعد الصلاة.
وهذا يستلزم أن يرفع الإمام صوته من باب التعليم، ونحن نعلم من كثير من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كان يرفع صوته أحياناً في بعض ما سن خفض الصوت فيه، وكلنا يعلم أن القراءة بعد الفاتحة في صلاة الظهر والعصر، تكون سراً ولا يشرع الجهر فيها.
ومع ذلك فقد قال أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه، حينما روى حديث قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة الظهر والعصر سراً.
قال: وكان يسمعنا السورة أحياناً، أي ليعلمهم ما يقرأ في الصلاة السرية، ففائدة التعليم تغلبت على سنية الإسرار في القراءة في الصلاتين.
الجهر بالذكر في زمن الصحابة
وقد استن بسنة الجهر بما أصله سر، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى الإمام مسلم باسناد رجاله ثقات ولكنه منقطع.
عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح: سبحانك اللهم وبحمدك، ولكن انقطاع الحديث قد ورد من فريق آخر، غير فريق مسلم.
وهذا من الأحاديث التي تستدرك عن الإمام مسلم، حيث أوردها باسناد منقطع، ولكن لا ينجو المتن من الصحة إلى الضعف، لأنه قد جاء وصله في بعض الأحاديث الأخرى.
وعملية رفع عمر رضي الله عنه صوته، أقول أنه لم يخالف السنة، ولكنه أحيا السنة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته أحياناً، في قراءة صلاة الظهر والعصر.
مع أن السنة السر فيها ذلك، بأن القصد من الجهر في مكان السر هو التعليم، وهذا ما فعله عمر رضي الله عنه، فهو لا يخفى عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ دعاء الاستفتاح سراً.
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بين التكبير والقراءة
وقد أخرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟
قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، إلى آخر الدعاء المعروف.
وهذا نص صريح، أن الصحابة كانوا لا يسمعون ما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم، بعد تكبيرة الإحرام، ولذلك وجهوا إليه هذا السؤال.
إذاً لا يمكن أن نتصور أن عمر بن الخطاب، لا يعلم أن السنة في دعاء الاستفتاح هو سر، ولكن جهر ليعلم الناس أن دعاء الاستفتاح من أدعية السنة.
الطريق في أخذ السنة الصحيحة
ويشبه هذا مع فارق كبير، ما يروى عن عثمان رضي الله عنه، أنه في خلافته عندما حج بالناس، صلى في منه خمس صلوات تماماً من غير قصر.
وروت بعض الروايات في تعليل هذا، أنه يعلم أن السنة هي القصر للحاج في منه، والذي حمله على فعل ذلك، قالت رواية فيها ضعف:
حمله على ذلك، أنه في ذلك الموسم كان عامراً بالأعراض، والأعراض المفروض أن لا يوجد فيهم فقه ولا علم.
فخشي عثمان بن عفان رضي الله عنه، يفهموا أنه لو صلى قصراً، أن الصلاة هي دائماً قصر، فلا يفرقون بين سفر وحضر.
وهذا يفسح لنا المجال أن نفهم، أنه إذا كان هناك مبدأ وقاعدة، أنه لا يجوز رفع الصوت بالذكر لما فيه من التشويش على المصلين، وجاءنا حديث كحديث بن عباس، صريح في الجهر،
فالمخرج حينذاك، ما ذكرته آنفاً عن الإمام الشافعي أنه كان تعليماً.