حرب أهلية طاحنة في رواندا ، راح ضحيتها مليون قتيل خلال أقل من مائة يوم، ولكن خلال عشرين عاماً فقط حدثت المعجزة.
تقع رواندا في منطقة البحيرات العظمى شرق وسط افريقيا، وهي أرض صغيرة مقارنة بجيرانها، تسكنها منذ القديم قبيلتان كبيرتان الهوتو والتوتسي.
قبل استعمار هذه الأرض، عاش الهوتو والتوتسي معاً، يحكمهم ملك يدعى موامي، تشاركوا الثقافة واللغة والدين، ولم يكن بالإمكان تمييزهم سوى عبر أعمالهم.
ففي حين امتلك التوتسي الأراضي والأبقار ومارسوا الرعي، امتهنت الأغلبية من الهوتو الزراعة.
لم يكن يتصور أحد أن هذه الأرض ستكون ساحة أكبر حرب إبادة قبلية، تشهدها البشرية في القرن العشرين.
راوندا / جاء الاستعمار
بدأ مع الألمان أواخر القرن الثامن عشر، الذين عززوا حكمهم مستخدمين التوتسي وملكهم، ثم جاءت بلجيكا بعد الحرب العالمية الأولى، وبنت سياستها على الفصل العنصري.
فاستحدثت نظام بطاقات هوية جديد، قسم الروانديين إلى هوتو وتوتسي بناءً على أشكالهم.
معايير شملت طول القامة وشكل الرأس ورسمة الأنف، ومرة أخرى استخدموا التوتسي لقمع الهوتو الذين عملوا كمزارعين لدى الاحتلال.
بدأ الهوتو في التذمر ضد البلجيك، وضد التوتسي أيضاً، وأدركت بلجيكا حتمية تغيير سياستها فحولت رهانها بشكل درامي إلى أغلبية الهوتو، ومنحتهم السيطرة على الكنيسة.
فأصدرت أول صحيفة رائجة باسم كينياماتيكا، استخدمت كأداة تحريض ضد التوتسي، ووصفتهم بأنهم إقطاعيون وليسوا روانديين أصليين.
اندلاع الثورة
وفي نهاية الخمسينيات اندلعت الثورة في رواندا، تمت الإطاحة بالتوتسي كطبقة حاكمة، وأحرقت بيوتهم وقتلت ماشيتهم وفروا إلى المنفى في أوغندا وبروندي والكونغو وتنزانيا.
لكن التحريض لم يتوقف، بل زادت حدته في رواندا سوءاً مع صعود جوفيونيل هابياريمانا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري في عام 1973.
الجبهة الوطنية الرواندية
وقتها كان التوتسي المطرودون ينظمون صفوفهم في أوغندا، وأسسوا الجبهة الوطنية الرواندية، التي غزت رواندا عام 1991، في هجوم تم صده وقتل زعيمها فريد روجياما.
لتنتقل القيادة إلى رجل يدعى بول كاغامي، الشاب النحيل الذي ستحفظ رواندا والعالم إسمه طويلاً.
أعاد كاغامي تنظيم الصفوف، وعاود الهجوم، ووصلت قواته قرب العاصمة كيغالي، قبل أن تتدخل الأمم المتحدة للتوصل إلى اتفاق سلام عرف بإسم اتفاقية أوشا.
لكن المتعصبين في الدوائر الداخلية للرئيس هابياريمانا، وفي مقدمتهم زوجته أغاثا، رفضوا الاتفاق، وقاموا بتأسيس إذاعة عرفت باسم ألف تلة.
التي استخدمت لمواصلة التحريض ضد التوتسي وصفتهم بالصراصير، ودعت الهوتو لتجنب الزواج أو التجارة معهم، وبالتزامن قام الجيش بتسليح الهوتو بالمناجل والهراوات.
وانتشرت الميليشيات في الشوارع.
اندلاع الحرب الأهلية
في السادس من أبريل/نيسان عام 1994، اندلعت شرارة الحرب، فقد أسقطت طائرة هابياريمانا بطريقة غامضة.
ورغم أن لغز الطائرة لم يحل إلى اليوم، بثت إذاعة ألف تلة حكمها، لقد قتل التوتسي الرئيس وآن الأوان لقتلهم جميعاً.
اشتعلت دائرة القتل الجهنمية، قتل كل توتسي واستهدف كل هوتو متعاطف معهم، تراكمت الجثث في الطرقات والأنهار والمصارف.
ومرة أخرى غزت الجبهة الرواندية، ولم يتوقف القتل إلا مع سقوط العاصمة بعد مائة يوم، وتم تنصيب حكومة جديدة وتولى الشاب بول كاغامي منصب نائب الرئيس.
وبدأ النزوح من جديد، ولكن هذه المرة من الهوتو، مليونا شخص هربوا من شبح الانتقام إلى زائير، وفي الداخل سجنت الحكومة مائة وعشرين ألفاً من مرتكبي الإبادة في سجون مكدسة.
غرقت البلاد في الفوضى، وفشلت الحكومة في إيجاد حل، واضطر الرئيس بيزي مونجو للاستقالة، لتنتقل الرئاسة إلى بول كاغامي نفسه. ولينتهي عصر الدماء ولتبدأ المعجزة.
الرئيس بول كاغامي
وصل كاغامي للسلطة عام 2000 حاملاً معه هدفين واضحين، توحيد شعبه المنقسم بعد المذبحة، وانتزاع بلاده من الفقر.
ومن أجل تحقيق الهدف الأول وضع كاغامي خططاً مدهشة للتغلب على آثار الإبادة.
الذكريات الحية
تعلن البلاد حداداً كاملاً لمدة مائة يوم، كل عام في السابع من أبريل، وتزامناً مع المراسم يعلن الرئيس هدفاً سنوياً في خطابه التذكاري لتوحيد الروانديين حوله.
تثقيف الشباب
عبر تدريس مقررات حول الإبادة الجماعية في المدارس، وإقامة الدولة معسكرات شبابية لمناقشة أسباب الإبداة وكيفية تلافي تكرارها.
العدالة
تخلت حكومة كاغامي عن المحاكمات واسعة النطاق، واكتفت بتقديم عشرات من كبار المجرمين إلى المحكام الدولية.
وفي المقابل أوكل مصير عشرات الآلاف ممن شاركوا في القتل، لمحاكم عرفية محلية على مستوى القرى والبلدات عرفت باسم الغاكاكا.
والتي تحولت بدورها إلى منتديات وطنية لإعادة تأهيل المشاركين في المذبحة، ودمجهم في مجتمعاتهم بعد قضاء فترة عقوبة مناسبة.
وطن جديد
علم ونشيد وطني ودستور في رواندا، حظر استخدام مسميات الهوتو والتوتسي، وجرّم استخدام أي خطاب عرقي.
خطة من أربعة بنود فقط، حولت رواندا إلى نموذج فريد للتعايش بين الجناة والضحايا، يتصارحون من أجل العفو ويرتادون نفس الكنائس ويتزوجون من بعضهم البعض.
رؤية 2020
ومع تقدم المصالحة وجهت الحكومة طاقتها للاقتصاد، كلف كاغامي فريقاً استشارياً بالسفر لدراسة تجارب الاقتصادات الصاعدة مثل سنغافورة.
تحولت نتائج الدراسات إلى رؤية اقتصادية، عرفت باسم رؤية 2020.
تشمل الرؤية 44 هدفاً، في مجالات مختلفة، ستتحول رواندا معها وخلال عقدين فقط، من أمة ترزح تحت خط الفقر إلى متوسطة الدخل.
أتت جهود كاغامي الاقتصادية ثمارها أيضاً، تضاعف حجم الاقتصاد الرواندي ثلاث مرات خلال خمسة عشر عاماً، مع نمو يصل إلى 8% سنوياً.
ويعد أحد أكثر الاقتصادات نمواً في أفريقيا والعالم، لقد عبر أكثر من مليوني رواندي حاجز الفقر وتحولت رواندا إلى أحد أفضل البيئات لتأسيس الشركات الناشئة.
كما تفخر البلاد اليوم بأعلى معدلات لذهاب الأطفال إلى المدارس الإبتدائية في افريقيا.
دور المرأة
مصالحة وطنية تاريخية، نجاحات اقتصادية باهرة، وللمرأة في رواندا نصيب الأسد، فللنساء ثلث المقاعد البرلمانية على الأقل، بقوة القانون.
ولذلك ستجد أن البرلمان الرواندي يضم أعلى نسبة لتمثيل النساء في العالم.
انجازات كاغامي
انجازات جعلت من كاغامي النحيل بطلاً سياسياً في الغرب، وأصبح هذا الرئيس ضيفاً دائماً للجامعات والمؤسسات المرموقة مثل هارفرد وبروكينغز.
ما سمح له بالترويج لإنجازاته، وصرف أنظار العالم عن الجانب المظلم لحكمه.
فبعد أن حكم كاغامي بلاده لخمسة عشر عاماً، قام في عام 2015 بتعديل الدستور للبقاء في السلطة أربعة عشر عاماً أخرى.
قبل أن يحوز ولايته الثالثة عام 2017 بنسبة 98% ورغم تمتعه بكاريزما وشعبية تضمنان له الفوز في انتخابات حقيقية، إلا أنه يسير في طريق سلطوي.
رافضاً انتقادات الأنظمة الغربية التي تقاعست يوماً أو بالأحرى مائة يوم عن التدخل لمنع المذبحة، ليستمر حكم الشاب النحيل.
المصدر: يوتيوب