الشيخ سعيد الكملي
العصبية عند العرب : روى مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث وكان والياً لعمر رضي الله عنه على مكة، خرج لاستقبال عمر بن الخطاب حيث كان قادماً إلى مكة.
فاستقبله في عسفان، وهي قريبة من مكة الآن، وعندما لقيه قال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ أي أهل مكة، قال: استخلفت عليهم ابن أبزى؟
وعمر رضي الله عنه كان مكياً، ولد في مكة، نشأ فيها، ويعرف أهل مكة، ولكن لا يعرف رجلاً اسمه ابن أبزى. فقال له: من ابن أبزى؟
قال له نافع: مولىً من موالينا. والمولى ليس من العرب، إما أن يكون عبداً ثم اعتق، أو أن أمه هي أمة وليس من العرب الصلحاء.
فتعجب عمر وقال: استخلفت عليهم مولى؟ فقال نافع بن عبد الحارث: يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه علام بفرائضه.
فقال عمر له حينئذ ولم يبد بعد معارضة: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
أكثر السامعين لهذا الحديث لن يدركوه حقاً، إلا إذا كان لهم تصور بالواقع العربي حين ذاك، فقد نتعجب من تعجب عمر رضي الله عنه.
فلماذا يتعجب عمر إن ولي مولى؟ فالآن في أذهان المسلمين أن المسلمين هم سواسية، ولكن لأن عمر رجل عربي، أدرك حقبة لا بد أن نفهمها لنفهم تعجبه.
العرب المناذرة
العرب في ذلك الزمن وقبل الإسلام كانوا يأنفون من أن يحكمهم ملك، فكيف يكون عبداً؟ ونذكر مثالاً على هذا:
عمر بن كلثوم الشاعر المشهور من شعراء العرب، وعمر بن هند كان ملكاً من ملوك الحيرة، وكانت الحيرة قريبة من الكوفة الآن.
وكانت عاصمة ملوك لخم من العرب الذين يسمون بالمناذرة، عمرو بن هند مجتمع مع قومه ذات يوم، فخطر بباله أن يسألهم سؤالاً: هل تعلمون أن أحداً تأنف أمه من خدمة أمي؟
فنظر الناس وقالوا: أم عمرو بن كلثوم فقال: لم؟ قالوا: لأن أباها هو المهلهل، وعمها كليب، وزوجها كلثوم بن مالك، سيد قومه وفارس العرب. وابنها عمرو بن كلثوم سيد من هو منه.
فلم يقتنع بجوابهم وأراد أن يتحقق. فبعث إلى عمرو بن كلثوم ودعاه إلى مأدبة، وطلب منه أن يأتي بأمه لتزور أم الملك، ودعا وجوه مملكته.
وجاء عمرو بن كلثوم ومعه أشراف قومه، ومعه أمه أسماء بنت المهلهل. وكان الملك عمرو بن هند قد اتفق مع أمه، وقال لها: نحي الخدم، فإذا جاءت أسماء اسأليها أن تناولك طبقاً.
ودخل عمرو بن كلثوم مع قومه وأكرمه عمرو بن هند، ووضعت الموائد والهدايا، ودخلت أم عمرو بن كلثوم على أم عمرو بن هند.
فلما فرغوا من الطعام، قالت أم الملك عمرو بن هند لأم الشاعر: يا أسماء ناوليني هذا الطبق. فقالت أسماء: صاحبت الحاجة تقوم إلى حاجتها. فأعادت عليها أم الملك: ناوليني الطبق.
فلما أعادت عليها وألحت، صاحت أسماء بنت المهلهل: واذلاه يا لتغلب فلما سمع ابنها صياحها ثار الدم في وجهه.
رأى الملك في وجه عمر بن كلثوم الشر، ونظر عمر بن كلثوم إلى سيف معلق في الرواق، فوقه فقام إلى السيف والتقطه، وقتل به عمرو بن هند، ورجع مع أمه إلى ديارهم.
هذا هو العربي، وهذا هو الوضع الطبيعي عند العرب في ذلك الوقت، قوم لا يحكمهم ملك، ويذكر عمر بن كلثوم في معلقته هذه القصة:
بأي مشيئة عمرو بن هند نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً متى كنا لأمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت على الأعداء قبلك أن تلينا
إذا عض الثقاف بها اشمأزت وولته عشوزنة زبونا
عشوزنة إذا انقلبت أرنت تشج قفا المثقف والجبينا
عصبية العربي لقبيلته
العربي عصبيته هي عصبية لم يوجد مثلها في ذلك الوقت، فحتى الكفار كانوا يتبعون الغاوية على غواية، وهم يعلمون أنهم غاوي لأنها عصبية العرب .
دريد بن الصمة هو فارس هوازن وخطيبها وشاعرها وحكيمها وذو الرأي فيها، يقول متحدثاً عن قومه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أني غير مهتد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فهو رجل حكيم يعرف أواخر الأمور من مبادئها، ويعرف مصادرها من مواردها، وإدبارها من إقبلها، وعرف ذلك فعلاً.
يقول أنه أمرهم الأمر الذي لم يتبين أنه صحيح إلا في اليوم التالي، وعصوه بعد ذلك ومع ذلك سمع منهم فهو منهم ومرتبط بهم بالعصبية.
فكيف هذا العربي يحكمه مولى؟ الذي هو من أقل الناس عندهم؟ إذا صار حافظاً لكتاب الله صار فوق رأسهم جميعاً؟
خلافة أبو بكر
عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى الناس أبا بكر في مستدرك الحاكم باسناد اختلف عليه المحدثون، ولكنه شيء مشهور في السير.
عندما بلغ خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، قال والد أبي بكر ابن قحافة: ما الخطب؟ قيل له: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: خطب جليل فمن قام بالأمر بعده؟ قالوا له: ابنك، فتعجب ابن قحافة وقال: وهل رضيت بنو مخزوم وبنو مغيرة؟
وقد أجابوا ابن قحافة: نعم رضوا. بسبب أن أبا بكر كان أقرأهم لكتاب الله، وأفقههم فيه، وكان أشدهم وأطولهم صحبة لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
بطون قريش
كانت قريش أشرف العرب، وكان هذا مسلماً عند باقي العرب، ولكن قريش ليست قبيلة واحدة بل بطون مختلفة، فهي قسمان:
قريش البطاح ، وهم مساكنهم قريبة من الكعبة، وقريش الظواهر ، وهم الذين يسكنون في العوالم. والذين يسكنون قريباً من مكة يكونون أشرف من الأبعدين.
وقريش فيهم بنو أمية وبنو مخزوم وبنو هاشم وبنو المغيرة وبنو عدي وبنو تيم وبنو أسد وغيرهم، فالعرب كلها تسلم إلى قريش.
ولذلك قال: ولن تعرف العرب إلا لهذا الحي من قريش. أي لن تقبل العرب ولن يتفقوا أن يحكمها أحداً إلا أن يكون من الحي، أي قريش.
زعماء قريش وتلاوة النبي للقرآن
وفي القصة التي يرويها ابن اسحاق في السيرة، ويرويها الزهري بإسناد مرسل. قال: اجتمع ليلة أبو سفيان وأبو جهل والأخنس بن شريق.
كلهم يريد أن يسمع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أحد يعلم بمكان أحد فخرجوا متسللين في جنح الليل حتى أخذ كل واحد مكانه.
يسمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، ومكثوا يستمعون الليلة كلها، حتى إذا كاد الصبح، رجع كل منهم حتى لا يراه الناس.
فلما انصرفوا جمعتهم الطريق فعرفوا وتلاوموا وتعاهدوا أن لا يعودوا مرة أخرى، ولكنهم أخلفوا وعادوا في الليلة الثانية متسللين مثل المرة الأولى.
فأخذ كل واحد مكانه ومكثوا يسمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما أسر الصبح رجعوا فجمعتهم الطريق وتلاوموا مجدداً.
ثم عادوا ليلة ثالثة، وفعلوا كما فعلوا سابقاً، وعند لقاءهم في الطريق قالوا لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نرجع. وفي الصبح ذهب الأخنس بن شريق إلى أبي سفيان.
فقال له: يا أبا حنظلة ما رأيك فيما سمعت؟ فقال أبو سفيان: يا أبا ثعلبة والذي يحلف به، لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء لا أعرفها ولا أعرف ما يراد بها.
فقال الأخنس:وأنا والذي حلفت به. فذهب الأخنس بن شريق لينظر رأي أبي جهل. فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت؟ فقال أبو جهل: وماذا سمعت؟
ثم قال له: لقد تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفارسي رهان. قالوا منا نبي يأتيه وحي من السماء، فأنا ندرك هذه والله لا أصدقه أبداً.
وهذا ليس لأن النبي صلى الله عليه وسلم يكذب، ولكنه إن صدقه أخر لبني عبد مناف بتقدمهم عليهم، فمات كافراً من تعصبه.
العرب بعد الإسلام
وهذا هو الجو العربي، يصير فيه الرجل الشريف المكي يقبل أن يقول له مولى من الموالي: افعل كذا ولا تفعل كذا، يقبله ولا يمتعض منه لأن ذلك المولى عالم بكتاب الله.
وهذا هو الذي يخبرنا به ربنا في قوله سبحانه وتعالى ( لقد أنزلنا لكم كتاب فيه ذكركم أفلا تعقلون ) الذكر هو الشرف فهو كتاب نتشرف به.