إسلامشخصيات

عروة بن الزبير من عظماء الأمة


الشيخ سعيد الكملي

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كان يقول عروة بن الزبير رحمه الله، روى ابنه هشام عنه أنه إن رآهم يلعبون وهم شباب يقول لهم هذه الكلمة:

ما لكم لا تتعلمون، إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم، وما خير الشيخ أن يكون شيخاً وجاهلاً.

وقد رأيتني قبل موت عائشة بأربعة أعوام أقول لو ماتت اليوم ما آسيت على شيء معها إلا وعيته.

هذا عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي المدني التابعي الثقة الإمام.

عروة بن الزبير وعائشة

كان أحد فقهاء المدينة السبعة، هؤلاء الذين كانت تدور عليهم الفتوى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخذ عن أبيه الزبير بن العوام الشيء القليل، ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات وهو صغير وأخذ عن أمه أسماء بنت أبو بكر الصديق، شيئاً قليلاً.

لكنه لزم خالته عائشة رضي الله عنها، وتفقه بها، وسمعتم ما كان يقول قبل أن تموت بأربع حجج.

أي كل ما روته عائشة وكل ما وعته عائشة، فقد رواه ابن اختها عروة ووعاه.

عروة بن الزبير الذي كان الصحابة يسألونه، الذي قال فيه الزهري وما أدراك من الزهري، يقول: كنت جالست سعيد بن المسيب سبع سنين، فكنت لا أرى أن هناك عالماً إلا هو.

ثم جالست عروة ففجرت به فبج البحر.

كرم عروة بن الزبير

عروة بن الزبير، كان مع هذا العلم الغزير، كان كريماً عابداً من كرمه رحمه الله، كان له بستان، وكان يعجبه وكلما دخله تلا قوله سبحانه لولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاؤ الله لا قوة إلا بالله.

فإذا كان زمان الرُطب، جعل في جداره ثقباً ليدخل الناس فيأكلون ويتحملون.

وكان عابداً، كان له ورد من القرآن في كل يوم يقرأ ربع القرآن نظراً، فإذا كان الليل قام بذلك الذي قرأه بالنهار.

قصة قطع رجله عند الخليفة

ولم يترك هذا الورد يوماً إلا يوم نشرت رجله، وهي قصة عجيبة جداً، فعروة مدني أراد أن يذهب إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق.

فلما خرج من المدينة، أحس بشيء في رجله فنظر، فإذا قرحة صغيرة. فما كاد يبلغ وادي القرى حتى عاد لا يقدر يمشي لا يقوى على المشي.

فما وصل إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك إلا محمولاً، وكان ذلك الذي أصابه الآكلة، فلما دخل على الخليفة الوليد بن عبد الملك، قال له: يا أبا عبد الله اقطعها. فأبى. فقيل له: إنها إن بلغت الركبة قتلتك.

فقال للخليفة: دونك ها، أي اقطع الركبة. فأحضر الطبيب، وأراد أن يعطي مخدراً ليفتر أعصابه وليرخيه ليستطيع القطع.

في ذلك الزمان كان القطع بالمنشار سيقطع اللحم وينشره ثم يصل إلى العظم. وتتصورون ما يحتاج العظم من النشر.

وهو في ذلك كله لا يريد مفتراً لا يريد مخدراً.  لأنه يرى أنه سيفتره عن ذكر الله وهو لا يريد ذلك.

فبدأ الطبيب ينشر في مجلس الوليد بن عبد الملك، والوليد منشغل عنه يحدث إنساناً، فلم يسمع الوليد شيئاً، فكانت تنشر رجله بجانبه لكنه لا يحدث صوتاً.

حتى قطعت الرجل وأريد كيها، فلما كويت وشم رائحة الكي والشواء، التفت الخليفة، حينئذ عرف أن رجل عروة قطعت. فلما رآها كاد يكون غريباً جداً.

قال: ما رأيت قط أصبر من هذا الشيخ. فلما قطعت الرجل وألقيت في الطست، نظر عروة بن الزبير رحمه الله إلى رجله ملقاة، وقال لها: الله يعلم أني ما سعيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم.

موت ابنه

فلما كان عائداً من سفره، بلغه نبأ قيل له: أن ابنك محمداً دخل الاسطبل، فضربته دابة فركلته فقتلته.

أي سفر هذا؟ رجل تقتطع وولد يموت؟

فلما أتى المدينة دخل عليه محمد بن المنكدر، أحد كبار أعيان علماء المدينة، فقال له: كيف كان سفرك؟ فقال له: لقد لقينا في سفرنا هذا نصباً.

الشكوى الوحيدة، لا يشتكي من شيء ولا يتشجر ولا يتسخط من قضاء ربه، ولكن الصدر لا بد أن ينفث، فينفث بآيات من كلام ربه سبحانه.

لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، ونصبه، أي نصب أعظم منه، رجل تقطع ونبأ عن اينه يموت أي نصب أعظم منه.

لكن هؤلاء المتصبّرون الراضون بما يكتبه ربهم عليهم، ويهيء الله لهم أناساً يكون كلامهم لهم أطيب على قلوبهم من الماء البارد.

تعزية الناس له بما يشفي صدره

دخل عليه فيمن دخل ليعزيه ويواسيه، عيسى بن طلحة. فقال عروة بن الزبير لأحد بنيه جالس عنده: يا بني اكشف الرجل لعمك، فلما كشفها وجدها مقطوعة.

قال له عيسى بن طلحة: يا أبا عبد الله والله ما أعددناك لنصارعك، ولا أعددناك لنسابق عليك، ولقد أبقى الله منك ما كنا نحتاجه، رأيك وعلمك. فقال له عروة: والله ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.

ودخل عليه آخر، فقال له مثل ما قال الأول. قال له: والله ما بك أرب للمشي، وليس بك حاجة للسعي، ولقد ابقى الله منك ما كنا فقراء إليه وهو علمك ورأيك.

وأما ابنك وطرفك فهو بعضك سبقك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، والله ضامن حسابك وولي ثوابك.

فقال عروة: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدة، وأبقيت ثلاثة. وكان لي بنون أربعة، فأخذت واحداً، وأبقيت ثلاثة. فإن أخذت لقد أبقيت، ولإن ابتليت لطالما عافيت.

وهذه مقامات نسأل الله أن يبلغناها، مقامات يقين مقامات النظر إلى نعمة الله في ابتلاءاته، النظر إلى المنح التي يمنحها الله في محنه التي يمتحنها لعباده، ويواسيه ربه بأعظم من هذا.

العبرة من قصة الضرير

في ذلك العام، وفد على الخليفة الوليد بن عبد الملك وفد من بني عبس، فيهم رجل ضرير. فسأله ابن عبد الملك عن عينيه كيف عميتا. فأخبره العبسي خبراً عجيباً جداً.

قال له: يا أمير المؤمنين لقد بت ليلة بوادٍ، ما أعلم أن عبسياً ماله أكثر من مالي. فطرقنا سيل، فذهب بمالي وأهلي وولدي إلا صبياً مولوداً وبعيراً.

قال: وكان البعير صعباً فندَّ ( شرد )، فوضعت الصبي وتبعت البعير. فلم أكن غير بعيد، حتى سمعت صياح الصبي، فالتفت فإذا رأس الذئب في بطنه يأكله.

قال: فتبعت البعير فضربني بخفه ضربة في وجهي كسرت وجهي وذهبت بعيني. وفأصبحت لا مال لي ولا ولد ولا أهل ولا بصر.

فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا بهذا إلى عروة بن الزبير ، ليعلم أن من في الناس من هو أعظم بلاءً منه.

وهذه مواساة من الرب سبحانه لعبده عروة، ليرى أن من في الناس من هو أعظم بلاءً منه، فلا يتضجر ويتسخط، ويصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم:

انظروا إلى من هو دونكم فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة ربكم عليكم.

حكمة عروة

وعروة رحمه الله، ينطق بكلام الحكماء، كان له كلام عجيب. من جملة كلامه رحمه الله، هذا الذي طالعة حديثنا، يقوله لابنه وأصحابه معه:

إن تكونوا صغار قوم تعلّموا، ما لكم لا تعلّمون؟ إن تكونوا صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبار قوم، ولقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج، أقول لو ماتت اليوم لم آسف على شيء معها إلا وعيته.

وقال له: مرة كنا أصاغر قوم، فصرنا أكابرهم، وأنتم الآن أصاغر وستصيرون كبراء، فتعلّموا العلم تسودوا به قومكم ويحتاجون إليكم.

وقال مرة: إذا رأيت الرجل يعمل بالحسنة، فاعلم أن عنده لها أخوات. وإذا رأيت الرجل يعمل بالسيئة فاعلم أن عنده لها أخوات. فإن الحسنة تدل على أخواتها وإن السيئة تدل على أخواتها.

وقال مرة: ليس الرجل الذي إذا وقع في الأمر عرف كيف يخرج منه، إنما الرجل الذي يتوقى الأمور فلا يقع فيها.

ومن قوله رحمه الله: لا تُهدي إلى ربك ما تستحي أن تُهدي إلى كريمك، فإن الله عز وجل أكرم  الكرماء والله أحق من تخيّر له.

وهذه نصيحة غالية من مثل عروة بن الزبير رضي الله عنه ورحمه، وما أحوجنا إليها. وأنتم الآن في شهر عظيم لا تهدي إلى ربك ما تستحي أن تهديه إلى كريمك.

أحدنا لا يتصدق إلا بما لا حاجة له به، مع أنه يسمع ربه يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.

مرض ابن عمر وتصدقه بما يحب

وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أحب شيئاً تصدّق به، وإذا أعجبه عبد من عبيده أعتقه لله.

ومن عجيب ما وقع له أنه كان مريضاً، فاشتهى عنباً. وأنتم تعرفون شهوة المريض يسعف بها، بالغة ما بلغت. فبعثت امرأته صفية بنت أبي عبيد، عبداً لها إلى السوق يشتري شيئاً من العنب لابن عمر.

والعنب قليل، فرأى مسكين في السوق العنب يُشترى، فتبعه. فلما دخل العبد دار ابن عمر، طرق السائل باب الدار، فقال: الأجر رحمه الله، هذه كانت عادة السؤال، يقولون الأجر رحمكم الله.

وابن عمر يشتهي عنباً فبه يتصدق، لا يتصدق بما يرغب عنه ولا نفسه ليست بمقبلة عليه، بل ما يشتهيه هو الذي يتصدق به. لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. وهو ذلك الذي يحب.

فأمر امرأته أن تعطيه العنب. فأعطته العنب، وأخذت درهماً آخر وبعثت العبد يشتري عنباً آخر.

فاشترى العنب ورجع، فتبعه المسكين. فلما دخل، دق المسكين باب الدار دقاً ثانياً: الأجر رحمكم الله. ابن عمر: أعطوه العنب. فأخذ العنب.

فلما انصرف، أعطت المراة الخادم درهماً أخيراً، كان آخر ما عندها، ليأتي بالعنب، فلما أتى بالعنب قالت له: إن رأيت هذا السائل قل له إن عدت لن تصيب خيراً.

فالوصية التي يتواصون بها الله أكرم الكرماء الله سبحانه أحق من يُتخّير له، فيُتخيّر له الحسن والمشتهى، وهذا الذي هو يهدى إلى ربنا أن يتصدق على عياله.

التقي أفضل النسب

ومن كلام عروة رحمه الله قوله: إذا انتسب الناس كان التقي بتقواه أفضل من ينسب، وقال أحدهم: أنا ابن فلان وقال الثاني: أنا ابن فلان، فالتقي بانتسابه إلى التقى هو أفضل هؤلاء جميعاً.

إذا انتسب الناس كان التقي بتقواه أفضل من ينسب، ومن يتق الله يكسب من الحظ أفضل ما يكسب.

ولهذا كانوا يقولون مهما سبقت إلى شيء فلا تسبقن إلى التقوى، في التقوى يتنافس الناس.

قصة عجيبة

ومن الغرائب التي وقعت أنه اجتمع في ليلة عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير وعروة بن الزبير وعبد الله بن عمر.

اجتمعوا ليلة، فقال كل واحد منهم: ليتمنى كل إنسان أمنية، فقال عبد الله بن الزبير: أما أنا فأتمنى أن أحكم الحرمين، وقال عبد الملك بن مروان: وأما أنا فأتمنى أن أحكم الأرض.

وقال مصعب بن الزبير وكان أميراً وفارساً قال: وأما أنا فأتمنى أن أجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت الحسين وابنة طلحة بن عبيد الله.

وقال عروة بن الزبير: وأما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم وقال ابن عمر وأما أنا فأتمنى أن يغفر لي.

قال الراوي: فكلٌ قد نال ما تمناه أما عبد الله بن الزبير فقد حكم الحرمين إلى أن قتله الحجاج.

وأما عبد الملك بن مروان، فقد صار خليفة للمسلمين وحكم الأرض التي يعيش عليها المسلمون في زمنه.

وأما مصعب فقد تزوج بالعقيلتين. وأما عروة بن الزبير فكان بحراً من بحور العلم ونقل عنه.

ولذلك قال الراوي: وقد نال كل واحد منهم أمنيته، ولعل ابن عمر أيضاً أن يكون الله تعالى قد غفر له.

وفاته في سنة الفقهاء

عروة بن الزبير مات سنة 94، وهذه السنة كانت سنة شؤم لكثرة من مات فيها من الفقهاء. ولذلك لقبت بسنة الفقهاء. وأن مات عروة بن الزبير رحمه الله، ما مات كلامه ولا مات علمه ولا ماتت حكمه.

وهذا خير ما يورث وخير ما يذكر به الإنسان، والله أعلم وإلى لقاء آخر إن شاء الله.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى