الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
بطل قصتنا اليوم هو أبو محذورة ، مؤذّن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عدد من الصحابة يؤذّنون للنبي عليه الصلاة والسلام.
منهم بلال بن رباح ومنهم عمرو بن أم مكتوم ومنهم أبو محذورة، واسمه أوس بن معير.
وراوي قصتنا هو عبد الله بن محيريز، كان يتيماً ورباه أبو محذورة مؤذن النبي عليه الصلاة والسلام في حجره.
وفي إحدى سفرات عبد الله قال مودعاً أبا محذورة: يا عم إني خارج إلى الشام وأخشى أن يسألني الناس عن تأذينك.
أي يسأل الناس عبد الله بن محيريز عن تأذين أبي محذورة كطريقة وأحكام وكيفية، وما إلى ذلك.
هنا ذكر أبو محذورة قصته مع الأذان، ويا لها من قصة رائعة.
قصة أبو محذورة مع الأذان
وقعت هذه القصة بعد غزوة حنين أثناء عودة النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه إلى مكة، وفي الطريق مروا ببعض الشباب المشركين، وعددهم يقارب العشرين.
دخل وقت الصلاة فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المؤذّن أن يؤذّن، فرفع المؤذّن صوته بالأذان: الله أكبر الله أكبر.
وصل صوت الأذان إلى هؤلاء الشباب، فأخذوا يصرخون ويقلدون الأذان ويحاكونه، وهذا من باب الاستهزاء بالأذان وهم مشركون.
وصل صوت استهزائهم وصراخهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأرسل في طلبهم، فأوتي بالشباب ووقفوا بين يديه، فسألهم النبي عليه الصلاة والسلام: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟
أكثر من شاب رفع صوته مقلداً الأذان، إلا أنه سأل عن أحدهم وقد كان صوته عالياً بارزاً واضحاً فأشار الشباب كلهم إلى أبي محذورة، وصدقوا.
أبو محذورة وقتها لم يكن مسلماً، وأول آذان أذّن به في حياته كان على سبيل الاستهزاء.
وفي رواية، أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر نحو عشرين رجلاً فأذّنوا فأعجبه صوت أبي محذورة. فقد كان أحسن الناس أذاناً وأنداهم صوتاً.
كيف استثمر النبي عليه الصلاة والسلام هذا الموقف
يقول أبو محذورة فأطلق النبي عليه الصلاة والسلام القوم وحبسني، ثم قال لي: قم فأذّن للصلاة، يقول: فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به.
فقام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه النبي عليه الصلاة والسلام كلمات الأذان، ثم أذّن بعده أبو محذورة كما علمه النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الأحبة الصوت الجميل موهبة، وأبو محذورة في أول أمره استعمل هذه الموهبة في معصية الله، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام فوظف هذه الموهبة في طاعة الله.
ولاحظوا معي اللمسات التربوية التي قام بها النبي عليه الصلاة والسلام تجاه هذا الشاب.
أثر المعاملة الحسنة والدعاء بالبركة
عندما انتهى أبو محذورة من الأذان، أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم مر بيده الشريفة على وجهه مرتين.
ثم على صدره ثم على كبده، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سرة أبي محذورة، ثم قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: بارك الله فيك.
فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قد أمرتك بها. ثم قال أبو محذورة: وذهب عني كل شيء كان لرسول الله من كراهية، وعاد ذلك محبة برسول الله عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، قبل لحظات كان أبو محذورة كافراً، فلما لقّنه النبي عليه الصلاة والسلام الأذان، ومسح وجهه وصدره ودعا له بالبركة، انقلب الكره إلى محبة.
انقلب الكفر إلى إيمان، انقلب الاستهزاء بالأذان إلى محبة وتعلق بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام. ثم يريد الله أن يهديه ليشرح صدره للإسلام.
جعل الله تعالى النور في قلبه والهداية في عقله، وأكثر أمر يمكن أن يغيّر قناعات الإنسان ويُذهب الشبهات أو الشكوك أو العداوات في نفس الشخص الآخر، هو سحر المعاملة الحسنة من الداعية.
وهذا ما برع فيه النبي عليه الصلاة والسلام.
مؤذن مكة
فقدم أبو محذورة على عتاب بن أسيد وكان أمير مكة من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، وكان شاباً حديث السن لكن لديه قدرات كبيرة.
ولاه النبي عليه الصلاة والسلام على قريش في مكة، فصار عتاب هو الأمير والإمام، وأبو محذورة هو المؤذن.
ومنذ فتح مكة وحتى وفاة أبي محذورة سنة 59، لم يزل مقيماً بمكة ملازماً الأذان كما علمه النبي عليه الصلاة والسلام. بل توارثت ذريته مهمة الأذان في مكة.
حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: أدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة يؤذن في مكة على الطريقة التي رواها عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وسبحان الله كيف ينشئ الله جيلاً جديداً في الدعوة، فهذه مكة التي كانت تنجب الفجرة الكفرة أعداء الدين، قد أخرج الله من أصلابهم من عبد الله وكبّر وأذّن ونشر الخير والتوحيد والحمد لله رب العالمين.