يروي الجزء الأول من الفيلم الوثائقي قصة اندثار الدولة العثمانية، وولادة مصطفى كمال أتاتورك .
حيث عاصر وعايش ضعفها العسكري وهزائمها وكان شاهداً على تفاصيلها، لينطلق بعدها في بناء تركيا الحديثة.
إن في العالم الإنساني أمة تركية عظيمة، يزيد عددها عن 100 مليون، ولهذه الأمة مكانة فسيحة في التاريخ، يضاهي مكانها على وجه الأرض.
يوافق ذكرى ميلاد الرسول الأعظم محمد عليه السلام، كما يوافق ذكرى وفاته، اليوم الذي اجتمع المسلمون فيه ليدبروا أمر خلافته وتسيير أمر الدولة.
واليوم بعد أن هب الشعب التركي وتسلم جميع أموره، وجعل السلطة ليست في يد شخص واحد، بل في مجلس مؤلف من وكلاء، هو مجلسكم الموقر.
(السادة المحترمون تبدوا المسالة واضحة ومتسقة، فإن كنتم ترون رأي فهو ما أرجوه، وإلا سيتم إنفاذ الأمر على الوجه الأمثل، لكن رؤوساً قد تقطع في سبيل ذلك).
مصطفى كمال أتاتورك
نهاية الخلافة العثمانية
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح
بهذه الأبيات رثا أمير الشعراء أحمد شوقي خلافة امتدت ثلاثة عشرة قرناً من الزمان، قبل أن يعلن الغازي مصطفى كمال باشا إلغائها.
لم تكن هذه أول مرة يسمع فيها العالم الإسلامي اسم الغازي، فليس ببعيد مدحة شوقي نفسه، إثر انتصاره على اليونان في معركة سقاريا.
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب.
كان خالد الترك هو مصطفى كمال أتاتورك والذي عرف بعد ذلك بأتاتورك، أي أبو الأتراك، ضابطاً عثمانياً وفياً للراية الحمراء ذات الهلال والنجمة، راية بني عثمان.
خاض معاركة الأولى تحتها في جبهات الدولة الواسعة، مما أعاد له شوقي ناصحاً:
فامدَح على الحقِّ الرِّجالَ ولُمهُموا أو خَلِّ عنكَ مواقِفَ النُّصاحِ
أدوا إلى الغازي النصيحة ينتصح إن الجواد يثوب بعد جماح
لكن الجواد انطلق إلى جهة أخرى، وجهة الغازي لم تكن شرقاً، أما حكايته فلا تبدأ هنا.
رياح التغيير
القرن الثامن عشر الميلادي، على هدير المحرك البخاري لأول مرة في ريف إنكلترا معلناً عصر ثورة صناعية، ستغير وجه العالم.
وعلى هدير الجماهير الغفيرة في باريس، مطالبين بالحرية والمساواة والإخاء في ثورة سيتجاوز أثرها حدود الدولة الجديدة.
أما في شرق القارة العجوز، كانت الإمبراطورية العثمانية مشغولة بحربها مع الإمبراطورية الروسية الفتية الطامحة لتوسيع حدودها غرباً.
إن القدرة على فهم شخصية مصطفى كمال أتاتورك تكافئ القدرة على فهم الفترة الأخيرة للدولة العثمانية.
فقد كان التاريخ الذي ولد فيه هو بداية مرحلة سقوط الدول العثمانية رويداً رويداً.
مضى السيف الترك إلى الغرب فاتحاً ما بلغه نصره من بلاد الروم مؤسساً دولة جديدة، اتسعت سريعاً ورفرفت راياتها على قلاع لم يصلها مسلمون من قبل.
ومع دخول مصر تحت الراية العثمانية عام 1517 ميلادية توجت السلطنة بالخلافة، فانتظم عقد العالم الإسلامي قروناً بعد انقطاع.
وككل حيّ له بعد القوة ضعف، ضعف سيف فماتت الأرض.
الفترة من نهاية القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر، كانت فترة تغير كبرى في الاجتماع وفي السياسة وفي بنية الدولة و السلطنة العثمانية.
المشكلة الرئيسة التي واجهت الدولة كما هو معروف كانت التراجعات في ساحة الحرب، والتراجعات أمام الروس، والتراجعات أمام الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، وحملت نابليون على مصر في نهاية القرن الثامن عشر.
الحرب العثمانية الروسية
عام 1774 انتهت الحرب العثمانية الروسية الأولى بتوقيع اتفاقية كيتشوك كاينارجي، وتعتبر هذه المعاهدة بالغة الأهمية في التاريخ العثماني وفي الفقه الإسلامي.
فلأول مرة يضطر العثمانيون للتنازل عن أرض يقطنها مسلمون، مما استدعى تدخل علماء الدولة لحل مشكلة تبعية مسلمي القرم.
النقطة الثانية الهامة هي أن الدولة العثمانية ولأول مرة في تاريخها أجبرت على دفع تعويضات عن الحرب لروسيا.
أي أنها لم تهزم في الحرب فحسب، بل ودخل اقتصادها في أزمة كبيرة أيضاً.
فخسرت أجزاء من أراضيها، لذلك أجبرت على دفع تعويضات عن الحرب لسوريا.
مثلت الهزائم العثمانية في الحرب الروسية جرس إنذار، كشف قصور السيف العثماني أمام الآليات الحديثة، كان الجيش الروسي أوربياً في أساليبه.
وكانت روسيا القيصرية الوليدة آنذاك تستلهم روح أوروبا في تحديث مجتمعها، حتى كانت العاصمة الروسية الجديدة سان بطرسبرغ التي بناها المؤسس بيتر الكبير أوروبية الطراز.
هناك حقيقة كبيرة، وهي أنكم لستم أقوياء كما في السابق، وأنكم تهزمون على كثير من الجبهات.
وأنه يوجد فاتورة لذلك، وهي أن الإمبراطورية تنكمش ويصغر حجمها بسرعة.
السلطان سليم الثالث
أرسل السلطان سليم الثالث مبعوثيه إلى أوروبا سفراء باحثين عن مكان نقط الضعف، أعاد السفراء بعسكرية جديدة وبعلوم جديدة ومع العلوم حكايات عن مجتمع جديد.
الدافع الأول لعملية التحديث، كان هو الهزائم والتراجعات العسكرية أمام القوة الأوروبية وأمام روسيا على وجه الخصوص.
عملية التحديث بدأت بشكل عميق جداً في المؤسسة العسكرية.
أصبحت التجنيد في الجيش إجبارياً على أبناء المسلمين، وانتظمت الدراسة في المدارس العسكرية الجديدة ورتبت البعثات للنابغين الضباط إلى أوروبا.
لم يقتصر التحديث على المجال العسكري بل شمل المجالات القانونية والإدارية.
إن الرأي الشائع هو التغريب في الدولة العثمانية، قد بدأ مع عهد التوليب، يوجد قبول مبدئي لذلك، استخدم هذا الاسم لأول مرة على لسان الشاعر يحي كمال.
في هذا العهد، دخلت الطباعة، وتمت طباعة الكتب بالأحرف التركية، وازدهرت الترجمة من اللغات الأجنبية.
عام بعد عام، وسلطان بعد سلطان تتسرب الأوروبية في جسد الدولة الواهن، بحثاً عن قوة جديدة.
تبدلت الثياب وتزينت شرفات الأسيتانا بالخزامى رمزاً لتلك الفترة.
أقاليم الدولة العثمانية الغربية
أما أقاليم الدولة الغربية فكانت تغيراتها أبلغ أثر، إذ ضمت جالية أوروبية تعيش حرة بامتيازاتها الأجنبية بعيداً عن قوانين الدولة.
سيلانيك أحد أهم ولايات الغرب العثماني، تتوزع اليوم بين ثلاث دول هي اليونان ومقدونيا وبلغاريا، عاصمتها تحمل نفس اسمها.
من الناحية التقنية تعد سيلانيك مكاناً تعيش فيه الروم والبلغاريون واليهود والأتراك بكثافة، ولهذا السبب هو مكان منفتح على الغرب.
ميناؤها هام، فهو ثاني أكبر موانئ الدولة العثماني من حيث الحجم بعد ميناء إسطنبول.
كما أنها مكان معيشي تواردت عليه الأفكار الغربية بكثرة واستوطنت فيه، ولا بد أن نذكر هنا أن مصطفى كمال أتاتورك تأثر بهذه الأفكار.
نشأة مصطفى كمال
في مدينة سيلانيك ولد الطفل مصطفى كمال أتاتورك عام 1881، أبوه علي رضا وأمه زبيدة.
كان أبوه موظفاً بالجمارك قبل أن تغريه المدينة الثرية بتجارها لترك العمل الحكومي وبدأ العمل بالتجارة.
أرادت له أمة أن يكون شيخاً معمماً، لكن انتظامه في الكتاب لم يدوم، فلم تستقم روحه المتمردة في نظام الحلق بلون روح وإيمان.
أمضى أتاتورك الذي ولد 1881 حياته الدراسية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني.
يحظى عصر السلطان عبد الحميد بمكان خاص داخل التعليم التركي في فترة ما بعد التنظيمات.
حيث انتقل من نظام التعليم الكلاسيكي التقليدي، إلى نظام التعليم الحديث الراقي.
كانت المدرسة العصرية بالمدينة آنذاك هي مدرسة شمسي أفندي، التي أسستها طائفة الدونمة التي ظهرت في الدولة العثمانية في منتصف القرن السابع عشر بين اليهود الذين وفدوا من الأندلس.
تحولوا للإسلام، لكن بقيت لهم عاداتهم وانغلاق مجتمعهم الخاص فلا يتزوجون من العثمانيين أو يزوجونهم.
كانوا على إطلاع واسع على ثقافات أوروبا ولغاتها وكانت لهم مساجدهم ومدارسهم الخاصة.
ألحقه أبوه بهذه المدرسة كونها الوحيدة في المدينة التي تعلم العلوم الحديثة آنذاك.
أثر وفاة والد أتاتورك على شخصيته
كانت مدرسة شمسي أفندي مكان يعلم بنمط غربي إضافة إلى التعليم الديني، يترعرع مصطفى كمال هناك.
تبدلت الأحوال في حياة مصطفى كمال أتاتورك سريعاً، خسر والده تجارته ففارق الحياة.
في عام 1888 عندما فقد أباه أصبح يتيماً ومعدماً من ناحية، وابن دولة مهدومة من ناحية أخرى.
وفاة والده تركت جرحاً كبيراً في شخصيته.
خصوصاً وأن زواج أمه من راغب أفندي بعد فترة قصيرة من وفاة والده أدى إلى حزن شديد لم يستطع كتمانه.
شب مصطفى كمال أتاتورك شديد الطبع عصبي المزاج، كثير الشجار مع أهله وزملائه.
عقب وفاة والده أنتقل أمه من بيتها إلى بيت شقيقها في قرية قريبة من سيلانك، لم يستطع خاله تحمل نفقات المدرسة العصرية، فألحقه بالعسكرية المجانية.
ارتدى ثوب العسكرية ففاضت نفسه على جوانبها، الآن أدرك ماذا عليه أن يكون.
الروح التي لم تنتظم في حلقة المسجد حول الإمام، انتظمت في صف الجند خلف الساري.
المدرسة الإعدادية العسكرية
بعد أن أنهى الدراسة في المكتب الأول في سيلانيك، ذهب إلى الرشدية العسكرية بكامل إرادته.
لأن الراشدية أي المدرسة الإعدادية كانت على شكلين، المدني والعسكري.
تثير فضوله الأزياء العسكرية التي يرتديها طلاب المدارس الإعدادية العسكرية.
لقد كان تلميذاً مجتهداً مهذباً حقاً في المدرسة الإعدادية العسكرية.
هناك في صفوف الجند حليق الرؤوس مورد الوجوه، أنست روح الفتى المتمردة القلقة أول السكن، سكن من وجد نفسه وعرف من هو.
الفتى الذي أمضى سنوات عمره الأولى يرفض الانصياع إلى الأوامر يتعلم الأن في المدرسة العسكرية كيف يلقي الأوامر.
تسميته بمصطفى كمال
كان مدرسه دائماً يقولون له: اسمك كاسمي مصطفى، فليكن مصطفى كمال، ليس لأنه كان يريد تميز اسميهما عن بعض فقط، بل لأنه رآه يتبنى أفكار نامق كمال.
ولهذا السبب أطلق عليه اسم كمال، فاسم كمال في اسمه مصطفى كمال يأتي من نامق كمال.
كان اسم نامق كمال آنذاك معروفاً في عالم الأدب التركي رائد من رواد الفكر القومي الوليد، تثير مقالاته الإصلاحية الرأي العام وتتسبب مسرحية وطن بعد عرضها في حوادث شغب.
قال عنه مصطفى كمال أتاتورك لاحقاً: أنه يجسد كل معاني المشاعر الحية.
مصطفى كمال أتاتورك كان رجلاً طموحاً وكما قلنا إنه تعلم إذا أردت أن تصل إلى مركز ومكانة عليك أن تجتهد أولاً، وألا تستسلم أبداً.
من سيلانيك إلى مناستر واسمها اليوم بوتولا إحدى مدن مقدونية.
باسمه الجديد مصطفى كمال أتاتورك يصعد من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة العسكرية العليا.
بالنظر إلى سجلاته في المدرسة الحربية، نجد أنهم كتبوا عنه قائلين:
ذكي ولكنكم ستواجهون صعوبة في إنشاء علاقة صداقة حميمية معه، فهو لن يفتح ذلك الباب لكم، لماذا؟ لأن عالمه الداخلي مغلق.
الحرب بين الدولة العثمانية واليونان
تحتل اليونان جزيرة كريت في نفس العام، لتعلن الدولة العثمانية الحرب عليها.
تقدم مع زملائه لقادتهم متطوعين لدخول الحرب مع الجنود، على الرغم من سنة التي لم تتجاوز السادسة عشرة.
غير أن الأوامر لم تكن قد صدرت للطلبة بالمشاركة في أي من المعارك بعد.
انتهت الحرب سريعاً بمعاهدة صلح عام 1897 م بشروط أشعلت الغضب بصفوف مصطفى ورفاقه في الجيش العثماني من سياسة الدولة.
لقد كانت هذه المرحلة المضطربة هي مرحلة التحصيل الدراسي لمصطفى كمال.
فقد عايش وعاصر الضعف العسكري للدولة العثمانية وهزائمها وكان شاهداً عليها.
كان بداخل صراع، واكتشف العالم والحياة في ذلك الصراع، كانت تلك الفترة التي تعرف من خلالها على الفلسفة الوضعية، عندما كان في المرحلة الإعدادية في المدرسة الرشدية.
مدرسة عبد الحميد
أولى عبد الحميد تعليم اللغات اهتماماً خاصة في المدارس التي أسسها وطوروها، كما أظهر عناية كبيرة في تعليم الطلاب قراءة القرآن وحصولهم على التعليم الديني وتحليهم بالأخلاق الدينية.
أربع سنوات قضاها مصطفى في مناستر لا يتعلم العسكرية فقط، بل يتلقى أفكار الثورة الفرنسية من مصادرها.
يقرأ مع زملائه في لقاءاتهم السرية ما كانت تترجمه المطابع العثمانية من ترجمات أهم كتاب أوربا المعاصرين لو لورسيو ومونتسكيو.
كما تعرفون في ذلك الزمان اللغة في القرن التاسع عشر اللغة الفرنسية، لأن فرنسا كانت مهمة، وثقافياً كانت مهمة.
حتى المثقفون في عهد العثماني كانوا يتكلمون اللغة الفرنسية أكثر شيء.
نبغ مصطفى كمال في دراسته حتى رشحه تفوقه في المدرسة للالتحاق بكلية الأركان العليا بإسطنبول.
الإنتقال إلى إسطنبول
إسطنبول درة العمامة العثمانية حين كان للعثمانيين عمامة، وحديقة التحديق العثماني حين ازدانت الشوارع والقصور بالخزامى رمزاً لعهد جديد من عهود المدينة.
مكتباتها عامرة بترجمات من كل لغات أوربا، ومجالسها تناقش ما يثور في أوروبا من قضايا.
هيئة تلك الظروف الجو لحركات شبابية ثورية طامحة للتحديث على أسس ما عرفت من أفكار جديدة وافدة مشغولة بالحكم النيابي وترى فيه مبعث الروح للمملكة العجوز.
أغلب الجمعيات السرية التي أسست في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تعود في جذورها إلى المدارس العسكرية.
هناك جيل جديد يبحث عن الشرع والشريعة في المشروطيات أي في الدستور.
جيل يرى أن حقوق الإنسان وحرياتهم الموجودة في الدين الإسلامي، لا يمكن تحقيقها ما لم يتم الانتقال إلى النظام البرلماني الدستوري.
الحكم النيابي في إسطنبول
تحقق الحكم النيابي عام 1876م مع بداية حكم السلطان عبد الحميد، كان الانتقال المفاجئ للانتقال بالحكم مربكاً في إدارة دولة واسعة متعددة الأعراق مفتوحة على جبهات عسكرية وفكرية عديدة.
كان من أول قرارات المجلس رفض لائحة أوروبية، تقضي بتحسين أوضاع المسيحيين باعتبارها تدخلاً بالشأن الداخلي للدولة.
مما دفع روسيا كونها الراعي لمصالح الأرثوذوكس، لإعلان الحرب على الدولة العثمانية، والتقدم في أراضيها حتى وصلت أدرنا.
كما عادت الجبل الأسود لإعلان الحرب ضد العثمانيين مستغلاً الحدث.
كل ذلك دفع السلطان عبد الحميد لحل المجلس وتعطيل الدستور، بحثاً عن مرونة أكبر لإدارة الدولة مما أعطى لحركات سرية جديدة مبرراً جديداً للنشاط.
في عام 1899م سيصل مصطفى كمال إلى إسطنبول من أجل إتمام تحصيله الدراسي في المدرسة الحربية العسكرية.
لأن المدرسة الحربية العليا الوحيدة للدولة العثمانية كانت موجودة في إسطنبول في منطقة بنقالي آنذاك.
كمال أتاتورك في الكلية الحربية
في الشوارع الملونة على شاطئ البوسفور، قضى مصطفى كمال أتاتورك عامة الأول منهمكاً في اكتشاف عوالم جديدة.
في إسطنبول كما في موناستر وجد في رحاب الكلية الحربية آفاق الثورة الوليدة.
مدرسين أوربيين يلتحقون في المدارس العسكرية العثمانية، ألمان ونمساويين وفرنسيين.
وفي المدارس العسكرية كانت الكتب والثقافة الأوربية على وجه الخصوص الثقافة الفرنسية، متواجدة على نطاق واسع ومتداولة بين الطلاب.
كانت لقاءات إسطنبول أكثر ترتيباً وإعداداً، حيث انضم مصطفى كمال أتاتورك خلال تلك الفترة إلى جمعية وطن المناهضة لحكم السلطان عبد الحميد والمطالبة بعودة العمل بالدستور.
إن طلاب البعثات الخارجية، أو الطلاب الذين درسوا في الإعداديات أو المدارس المتوسطة الجديدة التي أنشأتها الدولة، ينظرون إلى العالم والمجتمع والدولة بمفاهيم مختلفة جداً.
أصدر السلطان عبد الحميد أوامره بمنع اللقاءات السرية بين الضباط، ومنع الضباط من الخوض في السياسة.
رئاسة أتاتورك لجمعية وطن
وصل مصطفى كمال أتاتورك لرئاسة جمعية وطن بعد تخرجه، واستأجر غرفة في أحد أحياء إسطنبول الفقيرة يعقد فيها الاجتماعات وتطبع منها نشرة الجمعية.
غير أن عيون الشرطة الحميدية ما كان يخفى عليها شيء في إسطنبول، فوضع مع زملائه في السجن.
لم يطل بقائه في السجن، فتح الباب، وخالط صريره صوت يعلمه أن السلطان قد منحه فرصة جديدة ليثبت ولاءه وينقي سترته العسكرية مما لحقها من دنس السياسة والمؤامرات.
كانت الفرصة الجديدة مهمة عسكرية في جبال الشام، وصل بيروت بحراً، ومنها إلى دمشق على جواد يصعد الجبال ليدرك وحدته وهي تتأهب لقتال الدروز.
عام 1905م يعطى الأمر بقيادة الجيش الخامس في سوريا، حيث مركز الجيش.
كانت مدة الخدمة المقررة عامين، بقي بالشام إلى عام 1907، حيث سيؤس منظمة سرية باسم جمعية الوطن والحرية مع الضباط الشباب في الحامية العسكرية.
جمعية الوطن والحرية
لا شيء ينتشر أسرع من الثورة، أسست جمعية الوطن والحرية على يد تاجر تركي مقيم في سوريا.
وصادفت دعوته قبولاً واسعاً في صفوف الجنود والضباط الأتراك.
كان عسكر الأتراك في تلك البلاد، نابعاً من كونهم يحاربون عن أرض قد تهيئة بها كل أسباب العداوة للأتراك.
وباتت الثورة العربية أيضاُ قاب قوسين أو أدنى، لكن ثورة العرب الجديدة ما كانت لتسلم قيادتها لغير العرب.
إن أحد أهم ما يتوجب علينا الوقوف عليه والتمحيص فيه، هو جمعية الوطن والحرية في سوريا.
حينما كان مصطفى كمال أتاتورك قائداً للجيش الخامس، تلك الجمعية التي أسسها أثناء تواجده هناك.
فقد كان الهدف منها التدخل في سير الدولة وإنقاذها مما هي عليه، كي لا يتضاعف الأمر ويزداد سوءاً.
الأن هنالك قدر من الغموض، حول علاقة مصطفى كمال الشاب بهذه الجمعيات، وبما كان قد أسس جمعية من هذه الجمعيات وترأسها أو لا.
أدرك مصطفى أن الثورة التي ينشدها وزملائه لن تجد لها ظهيراً في هذه البلاد وأن النهر ينبع من مسقط رأسه سيلانك وعليه أن يرحل سريعاً إلى هناك.
ولكن الطريق إلى سيلانك ملغمة بعيون السلطان عبد الحميد وبريدة، الذين ينقلون إليه ما يحدث في أرجاء السلطنة قبل أن يكتمل اليوم.
الحل إذاً في يافا، منحه أحد زملائه الضباط الأعلى رتبة والذي كان عضواً في نفس الجمعية، إجازة قصيرة.
وأوصى به قائد حامية يافا أحمد بيك، الذي سلمه جواز سفرة مزور باسم تاجر سوري، وقام بترتيب سفره إلى سيلانك مع إحدى سفن التجارة الأجنبية.
ما إن وصل حتى صدر أمر باعتقاله، فبادر إلى العودة سريعاً إلى يافا.
بعد ذلك سيذهب مصطفى كمال أتاتورك إلى سيلانيك الثكنة العثمانية الهامة مع موناستر، حيث الجيش الثالث الذي ألحق به.
وحيث ظهرت جمعية الاتحاد والترقي التي سيتم ضم جمعية وطن معها لاحقاً.
جمعية الاتحاد والترقي
أسست جمعية الاتحاد والترقي في عام 1889م، لماذا في هذا العام؟ لأنه عام اليوبيل الذهبي للثورة الفرنسية.
ولهذا السبب نجد أن التيار الفكري الذي أثر في جمعية الاتحاد والترقي هو ما كان سائداً في فرنسا آنذاك، نجد البوزيتفيزم أو الفلسفة الوضعية.
جمعية الاتحاد والترقي، أو جمعية الاتحاد العثماني سابقاً، أسسها مجموعة من طلبة المدرسة الطبية العسكرية في إسطنبول.
ضمت كثيراً من أعضاء تيار تركيا الفتاه، ووضعوا أمام عيونهم هدفين، هما اسقاط السلطان عبد الحميد، واستعادة العمل بالدستور المعطل.
تعتبر جمعية الاتحاد والترقي أهم حركة معارضة في أواخر عصر الدولة العثمانية، حيث كان منتسبيها من كافة عناصر ومناطق الإمبراطورية.
الثقل الرئيسي للاتحاد والترقي كان من ضباط من أصول بلقانية، بمعنى من الجانب الأوروبي.
لاحت الثورة وشيكة في الأفق.
في سلانيك استفادة جمعية الاتحاد والترقي بالامتيازات الممنوحة للتجار الإيطاليين، فعقدت اجتماعاتها في بيوتهم، التي كانت ممنوعاً على السلطات العثمانية أن تصل إليها.
وخلال تلك الاجتماعات المستمرة، كان يتم وضع لمساتهم الأخيرة لثورتهم الشاملة.
كان أهداف مؤسسي هذه المنظمات السرية نبيلة، فقد أرادوا البحث عن النجاة من الأوضاع التي تردت فيها الدولة العثمانية.
ولكن مع الأسف كانوا على قناعة بأن هذه الوسائل لن تكون ناجعة إلا بتغيير نظام الحكم وتغيير الحاكم نفسه.
استجاب السلطان عبد الحميد عام 1908م، لدعوات العودة بالعمل بالدستور، وإجراء انتخابات لمجلس النواب المسمى بمجلس المبعوثان، حصد الاتحاديون أغلبية مقاعده.
ولم تمض شهور على انعقاد المجلس، حتى خرجت مظاهرات في 13/نيسان الثالث عشر من أبريل من عام 1909م.
تطالب بحل المجلس والعودة بالحكم إلى الشريعة الإسلامية، مما دفع الضباط الاتحاديين في التفكير إلى التحرك إلى إسطنبول.
حركة الضباط الاتحاديين
يتكون جيش الحركة من وحدتين: الأولى الجيش الأول ومركزه سيلانيك، والثانية الجيش الثالث في موناستر.
فقد كان جيشاً مكوناً من وحدات أخذت من هذه الجيوش.
كان لدى السلطان عبد الحميد قوات الجيش الأول التي تدين له بالولاء، إلا أنه أصر ألا يتواجد جنود عثمانيون ضد جنود عثمانيين.
وتنازل عن العرش لأخيه السلطان محمد الخامس، المعروف بمحمد رشاد.
من خلف عبد الحميد كان اسمه رشاد، وكان لقبه محمد، حيث منح هذا اللقب، لماذا منح لقب محمد رشاد؟
لأن إسطنبول تم فتحها من جديد مرة أخرى، ولأول مرة في تاريخ الدولة العثمانية لا تتم البيعة للخليفة الحاكم من قبل الجيش، ولا يتم تسليم السيف له بعد الذهاب إلى منطقة أيوب.
ولكن أين تم ذلك؟ في وزارة الدفاع الحربية التي كانت تقع مكان رئاسة جامعة إسطنبول.
يقضي مصطفى وقته في إسطنبول متأمل ما آلت إليه الأوضاع بعد تسلم الاتحاديين السلطة
كانت اللجنة المركزية للجمعية هي الحاكم الفعلي ولم يكن السلطان محمد رشاد، سوى واجهة تشريفية لاستبداد الاتحاديين.
في عام 1910م ستصله دعوة من أحد زملائه الضباط واسمه فتحي باشا، كان قد عين بعد الثورة ملحقاً عسكرياً في فرنسا، لحضور مناورة عسكرية هناك.
يقول مصطفى كمال لرفيقه فتحي:
إن الفرنسيين لا يقومون بالعناية بهذا الجيش من أجل خدمة السلام، إنني أسمع خطى أقدام حرب عالمية وأتمنى أن تبقى دولتنا بعيدة عنها، لأنها إن شاركت فيها ستكون نهايتنا بكل تأكيد.
كان الوضع الداخلي للدولة العثمانية يزداد سوء مع حكومة الاتحاديين.
وفي سبتمبر أيلول من عام 1911م، ترسوا السفن الإيطالية على الشواطئ الليبية.
أثناء تواجده على رأس مهمته في سيلانيك أي في سبتمبر 1991م هاجم الإيطاليون طرابلس في ليبيا.
الاحتلال الإيطالي
كانت ليبيا هي أخر أرض عثمانية في شمال إفريقيا، وكان الطريق البري بين العاصمة والإقليم غير متصل حيث يسيطر الإنكليز على مقاليد الأمور.
في مصر رأت القيادة العسكرية ضرورة إرسال ضباط عثمانيين لتولي تنظيم وتدريب المقاومة الليبية ضد الإيطاليين.
ولبعد المسافة وصعوبة الرحلة، جعل الأمر بالتطوع لمن يرغب من الضباط، وكان مصطفى كمال وأنور باشا على رأس قائمة الضباط الذين تطوعوا للسفر.
متنكراً من عيون الإنكليز مع زملائه، حاملاً أحلامه بين ضلوع، شد الرحال إلى الأراضي الليبية.
ذهبوا جميعهم إلى ليبيا عبر مصر بشكل سري، وهناك حاربوا مع جنود محليين ليبيين ضد الإيطاليين.
انتهت هذه الحرب بالهزيمة، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن حرب البلقان ستشتعل في عام 1912م.
حرب البلقان
في اليوم الثامن من أكتوبر تشرين الأول من عام 1912م، قامت دولة الجبل الأسود بإعلان الحرب على الدولة العثمانية، تبعتها كل من بلغاريا وصربيا ثم اليونان.
تقدمت الجيوش واجتاحت الحدود الغربية للدولة العثمانية حتى إيديرنا ثم تشاطلجا، على بعد أميال من إسطنبول.
عاد مصطفى كمال سريعاً إلى إسطنبول، ليجد أمه وأخته بين ألاف اللاجئين الذين فروا من بطش الجيوش المتحالفة وأقاموا في مخيمات بنيت على عجل.
لقد تسببت حروب البلقان في حزنه، ككل أفراد الجيش العثماني.
لأن مصطفى كمال كان مليئاً بالكبرياء، وعندما يجتمع الكبرياء بالحزن الذي يسكن روح الإنسان الذي هاجر، فإنه يؤدي إلى خلق حالة من شخصية خاصة.
ولعل ذلك كان أحد الأسباب وراء رؤيتكم لتلك التصرفات القاسية الحادة في خطاباته وأحاديثه وكتاباته.
أما أنور باشا فقد كلف بقيادة الجيش العثماني في البلقان، حيث حقق انتصارات دفعت الجيوش الغازية إلى الانسحاب من أراضي الدولة العثمانية، مما أكد شهرته العسكرية.
من هو أنور باشا؟
كان أنور باشا زوجاً لأميرة من القصر العثماني، السلطانة ناجية حفيدة مراد الخامس وابنة الشاه زاده سليمان.
حتى أنه عندما تقدم بطلب ترقية إلى رتبة عميد وأرسل الطلب لمحمد رشاد كونه الخليفة آنذاك.
يقول محمد رشاد مبتسماً: لقد أصبح عريسنا باشا، هكذا يروى، وهو ما يفسر ترقياته السريعة.
بعد ترقيته كلف أنور باشا بوزارته الحربية، كان من أول قرارات أنور باشا إبعاد مصطفى كمال عن إسطنبول، حيث عينه ملحقاً عسكرياً في صوفيا عاصمة بلغاريا.
بداية الحرب العالمية
إنذار حرب شاملة تلوح في الأفق الأوربية، حدود الإمبراطوريات التاريخية تحتك محدثة زلازل متقطعة، وعلى العروش العريقة قادة سرعان ما سيفجر طموحهم البركان.
لم تكن الحرب العالمية مفاجأة للعثمانيين، كان السلطان عبد الحميد من قبل قد تنبأ بها، وتوقعها مصطفى كمال حين زار باريس.
انقسمت آراء العثمانيين حول الموقف من هذه الحرب، وجد الاتحاديون في المشاركة فيها إلى جانب الألمان فرصة سانحة لتخلص من الامتيازات الأجنبية التي تكبل أركان الدولة.
أما رجال الدولة فيرون أن تكلفة الحرب لن تتحملها خزانة الدولة المثقلة بتبعات عديدة.
أما الميدان فقد حسم الأمر فإلى الشمال في البحر الأسود، انطلقت نيران إحدى سفن الأسطول العثماني صوب سفينة عسكرية روسية لتفتح صفحة دامية في تاريخ البلاد.
الدولة العثمانية والحرب العالمية
الحرب اندلعت في أغسطس لكن الدولة العثمانية لم تصبح طرفاً في الحرب إلى الأيام الأخيرة من أكتوبر وبداية نوفمبر، المعنى أنه لم يكن قراراً متسرعاً كما قيل.
قدم مصطفى كمال في ذلك الوقت طلباً إلى أنور باشا كتب في: إنه من غير الصواب أن أعمل هنا كملحق عسكري بينما بلادي في حالة حرب.
بلغت مساحة الدولة العثمانية عند بداية الحرب أكثر من ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، ما يعني حدوداً طويلةً وجبهات عديدة وأعداء تاريخيين.
فشمالاً لم تتوقف روسيا عن التوسع، وغرباً تقبع اليونان خصمها العتيد، أما جنوباً فيتسع الشرق العربي التركي ممهداً لثورة تستهدف الاستقلال العربي عن الحكم العثماني.
حاربت الدولة العثمانية على أربعة أو خمسة جبهات تقريباً، أهمها جبهة تشاناق قلعة، ومن ثم جبهة غالجيا، وجبهة قناة فلسطين، وجبهة اليمن، كذلك يوجد دفاع مكة والمدينة.
أراد الإنجليز التخلص من العنصرين الأساسيين للدولة العثمانية، وذلك عبر الدخول إلى العراق وإيران وفتح خط من إسكندرون إلى بغداد.
لقد أرادوا إنهاء الحرب بفصل تلك المناطق عن بعضها بعض، وبذلك سيبقى الأتراك في الشمال والعرب في الجنوب.
مصطفى كمال في الدردنيل
عقب استدعاء مصطفى كمال من صوفيا، عين مصطفى كمال قائد للفرقة التاسعة عشر التابعة للجيش الثالث، والذي كان مركزه سيلانك ثم نقل إلى أدرنا بعد احتلال اليونان لسلانك.
وأوكلت له مهمة تأمين مضيق الدردنيل، يفصل مضيق الدردنيل بين أسيا الصغرى وبين شبه جزيرة جاليبولي، ويعد المنفذ البحري الوحيد للسفن الحربية الروسية القادمة من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط.
وتشرف على حمايته قلعتان حصينتان، قلعة تشاناق في الشاطئ الآسيوي وقلعة غاليبولي على الشاطئ الأوروبي.
وفي13/ يناير كانون الثاني عام 1915م صدق مجلس الحرب البريطاني على القيام بحملة بحرية، هدفها الاستيلاء على مضيق الدردنيل لتأمين مسار السفن الروسية وتهديد العاصمة إسطنبول بضربة واحدة.
كانت الدولة الاستعمارية على قناعة بأنها ستعبر مضيق تشاناق قلعة باتجاه إسطنبول في فترة قصيرة جداً.
حتى أن بريطانيا بدأت توزع دعوات لحفل راقص أعلنت تنظيمه هناك، كانوا واثقين من أنفسهم إلى ذلك الحد.
اهتمت الدولة العثمانية منذ نشأتها بتأمين المضيق بشكل خاص ومع بداية الحرب زرعة ألغام بحرية فاجأت الحلفاء.
وكان نتيجتها غرق ستة سفن فرنسية وإنكليزية، غرقت 6سفن من أصل 18 سفينة وحسم أمرها بعدم المشاركة في الحرب.
وهكذا لم تتمكن هذه السفن من المرور من مضيق تشاناق قلعة بسبب الألغام ونيران القلاع.
أدرك الحلفاء أنه من ليس الممكن عبور مضيق تشاناق قلعة بحرب بحرية.
واتجه قرارهم إلى ضرورة التعزيز بقوات البرية يتم إنزالها في شبه جزيرة غاليبولي، تكون هي القوة الأساسية.
ويقتصر دور الأسطول البحري على الإمداد والتمويل اللازمين.
لقد اعتقد مصطفى كمال جازماً أن المنطقة التي سيتم فيها الإنزال هي منطقة أنافارتالار.
لأن العدو قام بالإنزال هنا حيث المسافة القصيرة بين تشاناق قلعة وغالبولي تقدر بـ 3 كيلومترات، فتسقط القلعة وتنقطع خطوطا لدعم.
الحرب البرية في غاليبولي
لقد بدأت الحرب البرية بشكل فعلي في تاريخ 25 أبريل، فقد نقل السيد خليل سامي قائد الفرقة التاسعة معلومات عن تحركات العدو، وعن اقتراب سلاح البحرية ووحداتها من منطقة غاليبولي.
وبمجرد أن يتلقى السيد مصطفى كمال قائد الفرقة التاسعة عشر هذه المعلومات، وكان حينها برتبة مقدم.
توقع مصطفى كمال أن يتم إنزال الجنود في منطقة أنافارتا، أبلغ قيادته بذلك وطلب الإذن بالتحرك، إلا أن القيادة الألمانية رفضت ذلك.
تمت مرحلة الإنزال الأولى بنجاح، فرست ستة فرق بريطانية على الشاطئ الغربي لشبه الجزيرة وفرقة فرنسية على الشاطئ الأسيوي.
عندها أتخذ مصطفى القرار بصفة منفردة وتحرك بجنوده ليقطع الطريق على أحد فرق جنود الحلفاء الذين بدأوا بتوسيع رؤوس الشواطئ.
لعل الإنسان التركي انتظر مصطفى كمال طويلاً اعتباراً من عام 1800، انتظر طويلاً ليصطف خلف بطل ما، لذلك كانت عيونهم تبحث عمن يخاطبهم بلغتهم ويقول لهم ازحفوا.
وهنا يخرج مصطفى كمال في أنافارتا ليقول: (أنا لا أتلقى الأوامر من ألماني، اعطوني جنود أنافارتا.
إن لم يكن بينكم أحد لا يريد أن يزيل عار حروب البلقان بنصر يمكن تحقيقه هنا، فتعالوا سوية نمطرهم برصاصنا).
ففي قاموس تشاناق قلعة تعني جبهة أنافارتالار، وأنافارتالار تعني تركيا، أنافارتالار تعني مصطفى كمال.
بعد أن فقدت دولة الحلفاء آمالها في تشاناق قلعة قرت الانسحاب من هذه الجبهة في 9 يناير 1915.
كانت خسائر الحلفاء البشرية خلال عام كامل في هذه الحملة تزيد عن مئتي ألف قتيل.
القوات الروسي وحدود العثمانيين
لم يجد الجنود العثمانيون وقتاً للاحتفال بانتصار غاليبولي، فعلى الجبهة الشرقية للدولة كانت القوات الروسية تحقق انتصارات واسعة، استولت على ارزوروم ووصلت إلى بحيرة وهن.
كلف الجيش الثالث بالتوجه شرقاً لصد هجوم الروس ومحاولة استعادة ما فقد من أراضي.
عقد قيادة الفيلق للقائم مقام مصطفى كمال، الذي كان قد حاز ترقية استثنائية وشهرة واسعة بعد دورة في معركة غاليبولي.
تم تعين مصطفى كمال بعد جبهة تشاناق قلعة قائداً للفيلق السادس عشر في المنطقة الشرقية، فحارب على جبهة الشرق ضد روسيا، وأوكلت له مهمة هامة في تحرير بتليس.
حقق مصطفى كمال انتصارات في شرق الأناضول مستغل ما حمله عام 1917م لروسيا من ثورة البلاشقة، والتي أطاحت بالحكم القيصري في روسيا وانعكست الاضطرابات الداخلية على الجبهات الروسية.
فأعاد ما فقدته الدولة العثمانية من أراضي شرقاً، وتقدم بجيشه للقوقاز، وتم ترقيته إلى رتبة أميرلاي، وألحق في الجيش السابع في سوريا.
كمال أتاتورك وأنور باشا
لم يطل بقائه هذه المرة في الشام إذ أعادة أنور باشا إلى إسطنبول سريعاً وألحقه بحرس التشريفات السلطانية.
أراد وحيد الدين السفر لألمانيا للنظر في الوضع السياسي والعسكري، عبر مشاورات مع قيادات الجيش هناك.
وعند السؤال عن الشخص الذي يمكن تكليفه بمرافقته اتفقت الآراء على أن مصطفى كمال هو الشخص المناسب كونه معروف كبطل تشاناق قلعة.
وهكذا التقى مصطفى كمال وحيد الدين في محطة قطارات سيركاجي بادئين رحلتهم سوياً.
واضح أنه تكونت علاقة شخصية بين السلطان ومصطفى كمال، أثناء رحلة وحيد الدين عندما كان ولياً للعهد إلى ألمانيا، وكان مصطفى كمال أحد مرافقيه.
أصبح هناك علاقة شخصية، ولكن إلى أي درجة هذه العلاقة كانت عميقة ووثيقة فهذا الأمر ليس واضحاً.
بعد عودته من ألماني سيعيده وحيد الدين إلى حلب في أغسطس آب من عام 1918م ليستأنف قيادة الجيش السابغ.
كان مقر قيادة الجيش في نابلس، وكان تحت قيادة الجنيرال الألماني فون ساندرس الذي كان مقرة في الناصرة.
بعد وصول مصطفى كمال إلى تلك المنطقة كانت القوات الإنكليزية والفرنسية قد حصلت على دعم محلي من العرب.
شكله الشريف حسين بمساعدة لورانس، وكما تعلمون فقد أسس لورانس تنظيماً هناك، وكان سبباً في تشكيل لمقاومة الكبيرة ضد الدولة العثمانية.
وجد مصطفى كمال أن جيشه يعاني الجوع والمرض ونقص الإمدادات فقرر سحب الجنود باتجاه الشمال والتراجع حتى جبال توروس.
فهناك على حدود الأناضول الجنوبية سيكون قريباً من مركز الدولة وسيكون للجنود دوافع أقوى للصبر إذ أنهم الأن يدافعون عن قراهم وعن أهليهم.
أرسل مصطفى كمال تلغرافاً إلى إسطنبول يخبرهم أن القوات واجهت انكساراً وأنه لا مجال للحديث عن النجاح، وعليهم تدارس مسألة وقف إطلاق النار في أسرع وقت ممكن.
اتفاقية مودروس
بدأت بعد ذلك المباحثات لوقف إطلاق النار في 30 أكتوبر 1918م تم توقيع اتفاقية مودروس، التي وقعتها رؤوف أورباي بك في ميناء مودروس.
كانت شروط المعاهدة في الحقيقة أقسى من أن يتحملها جندي عثماني حر قاتل مع زملائه على امتداد سنوات أربع باتساع رقعة الدولة.
فقد أشطرت لندن تسريح السواد الأعظم من الجيش التركي والسيطرة الكاملة على مضيقي البوسفور والدردنيل بالإضافة عن التخلي التام عن جميع الولايات العربية.
ومنحت نفسها حق احتلال أي بقعة من الأراضي العثمانية ترى أهميتها العسكرية.
وافق السلطان مضطراً بعد أن بدى واضحاً له أن كفت الحرب تتجه لنصر بريطاني شامل ضد ألمانيا وحلفائها.
وأن الرهان الذي أتخذه عسكريون الاتحاديين قد خسر.
سيتولى مصطفى كمال قيادة مجموعة يلضرم (الرعد) خلفاً لفون ساندرس، برتبته الجديدة عميد.
وستكون وظيفته ما نطلق عليه (بقية السيوف) أي جمع وسحب ما تبقى من وحدات الجيش إلى منطقة أوروفا.
يجمع أشياء ويأتي إلى إسطنبول ويرى أثناء عبوره إلى الضفة المقابلة السفن التي تمر من المضيق أمام قصر الدولما باهتشا بعد ثلاث سنوات من تشاناق قلعة.
ويجيب على سؤال مساعده: ما هذه الحال التي أنت فيها يا باشا؟، قائلاً: كما جاؤوا يغادرون.
ويتقدم بطلب للقاء الخليفة وحيد الدين، ولم يستطع الحصول على اللقاء فأقام في شيشلي إسطنبول لبعض الأيام.
نصر صغير بين يدي مصطفى وهزيمة كبيرة بين يدي السلطان، وأنور ورجاله فروا تاركين خلفهم حرائق تلتهم ما تبقى من الدولة العجوز.
أما مصطفى فقد أمضى أيامه في مراقبة سفن الإنكليز الراسية على شواطئ إسطنبول في انتظار وعد من السلطان باللقاء.
لقاء سيكون له اثر في رسم مستقبله ومستقبل الدولة كلها.
أجريت المقابلات مع:
د. بشير نافع مؤرخ وأكاديمي عربي
د.يوكسل تشيليك أستاذ التاريخ بجامعة مرمرة
بروفيسور: جيزمي أرسلان أستاذ التاريخ بجامعة إسطنبول
بروفيسور: محمد بايهان رئيس مركز أتاتورك للبحث والتعليم
بروفيسور: زكي زينال أستاذ العلوم الإسلامي جامعة يلدم بايزيد
د. كنعان أولجون أستاذ بجامعة يلدرم بايزيد أنقرة
د. غالب تشاغ أستاذ التاريخ بجامعة الغازي
د. جنكيز تومار أستاذ بمركز دراسات الشرق الأوسط أسطنبول
د. صايم تركمان ضابط متقاعد، أستاذ بجامعة أنقرة
بروفيسور: علي أرسلان أستاذ التاريخ بجامعة إسطنبول
بروفيسور: صباح الدين أوزال أستاذ تاريخ بجامعة إسطنبول