نهضة ألمانيا أو النهضة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فكيف تمكنت ألمانيا من بناء نفسها لتصبح سيدة أوروبا؟
نهضة ألمانيا ومرحلة ما قبل النهضة
في الثامن من مايو من عام 1945 وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كأكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية.
مخلفة ورائها نحو 65 مليون قتيل، وكان هذا يوم النصر للحلفاء ولضحايا النازية، ولكنه كان يوم الهزيمة لغالبية الألمان في ذلك الحين.
سنوات من القصف الجوي خلفت خراب فاق دمار القنبلة النووية في هيروشيما، والقنبلة النووية على ناغازاكي وقُتل 7.5 مليون ألماني.
بات عدد كبير من الرجال بين عمر 18 إلى 35 عاماً بين قتيل ومقعد، وأصبحت مدن بأكملها مدمرة مثل مدينة دريسدن.
وانخفض عدد سكان مدينة كولون من 750 ألف إلى 32 ألف إنسان، 25% من مساحة ألمانيا ما قبل الحرب العالمية الثانية استحوذت عليها بولندا والاتحاد السوفيتي.
أبعد سكانها الذين يُعتقد أن أكثر من مليون منهم ماتوا في التشرد، وانخفض الإنتاج الزراعي إلى الثلث، وتآكلت المصانع بين التدمير والتفكيك الممنهج.
بهدف تحويل ألمانيا إلى بلد ريفي غير مؤذٍ، بموجب اقتراح وزير المالية الأمريكي حينها هنري مورجنثاو.
كما استولت الولايات المتحدة وبريطانيا على تكنولوجيا وبراءات اختراع ألمانية تفوق قيمتها 121 مليار دولار بحسب أسعار عام 2017.
وأدت سياسة التحكم بالأسعار تلك التي فرضها الأوروبيون إلى نقص في البضائع، وانتعاش في السوق السوداء.
حلت السجائر الأمريكية وزجاجات المشروبات الروحية، بدل المارك الألماني كعملة للتبادلات التجارية،
وراجت المقايضة في ظل انتشار الفقر.
وفوق كل ذلك فرض على ألمانيا دفع تعويضات سنوية للحلفاء، بما تعادل 24 مليار دولار، بحسب أسعار عام 2017.
زاد على جو الرعب الحديث عن الثأر من الألمان في الكتب والصحف العالمية، مثل اقتراح رجل الأعمال اليهودي ثيودور كوفمان، منع الألمان من الإنجاب، في كتابه ألمانيا يجب أن تسحق.
دولتان في ألمانيا
خرجت ألمانيا من الحرب محتلة من أربع دول، وانقسمت لاحقاً إلى دولتين، عن طريق بناء جدار برلين.
جمهورية ألمانيا الشرقية
جمهورية ألمانيا الشرقية احتوتها الستارة الحديدية للإتحاد السوفيتي في عام 1949، وخضعت ألمانيا الشرقية لتخطيط اقتصادي مركزي، تحكمه مؤسسات الدولة.
ورغم أنها كانت مثقلة بجراح الحرب العالمية الثانية، والتعويضات المفروضة من الإتحاد السوفيتي، إلا أنها أصبحت الدولة الأغنى في الكتلة الشرقية، ووصل دخل الفرد فيها في عام 1985، إلى ما يعادل 23.300 دولار بحسب أسعار عام 2017.
جمهورية ألمانيا الغربية
جمهورية ألمانيا الغربية التي تقترب من المعسكر الرأسمالي، وهي التي شهدت ما سمي بالمعجزة الاقتصادية الألمانية.
وزير الإقتصاد بكتبه ومقالاته
في عام 1944 نشر الإقتصادي الألماني لودفيغ إيرهارت، مقالة افترض فيها خسارة النازيين، وقدم تصوراً للإقتصاد الألماني.
وصلت المقالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فقاموا بتعينه بعد الحرب العالمية الثانية، وزير الاقتصاد لولاية بافاريا، وما لبث إيرهارد أن أصبح مدير لمجلس الاقتصاد في ألمانيا الغربية.
عمل إيرهارد على إعادة إحياء الاقتصاد الألماني، من خلال خطوتين، العمل مع الحلفاء على استصدار المارك الألماني الجديد بدلاً من العملة البائدة.
ونتيجة لذلك تم تقليص العملة المتوفرة في السوق إلى 93%، وقبل إعلان العملة الجديدة في 21 من يونيو من عام 1948، اتخذ إيرهارد خطوة أخرى جامحة لم ترق للحلفاء.
فقد ألغى في اليوم نفسه سياسات التحكم بالأسعار المفروضة من الحلفاء، ليتعرض للإنتقاد العالمي حينها، إلا أنه أثبت للجميع صواب قراره هذا.
وبين ليلة وضحاها عادت ألمانيا الغربية إلى الحياة، وبدأت رفوف المتاجر تمتلئ بالبضائع، ومع إدراك الألمان أن العملة الجديدة كانت ذات قيمة.
انتهت السوق السوداء وعمليات المقايضة، وبظهور حافز للعمل من جديد، عاد الحس الصناعي للألمان وفي شهر مايو من عام 1948.
كان الألمان يقضون 9 ساعات ونصف في إزالة الأنقاض بعيداً عن العمل، ولكنهم بعد خمسة أشهر لم يتركوا عملهم أكثر من أربع ساعات.
ونهض الإنتاج الصناعي من 50% عما كان عليه قبل الحرب، في شهر يونيو إلى 80% في نهاية العام، ولكن النهضة الصناعية الجديدة واجهت صعوبات.
وهي نقل العمال والمصانع، من الصناعات العسكرية الثقيلة إلى الصناعات المدنية، كما أن الطلب العالمي على البضائع الألمانية كان ضعيفاً، لوجود بقية من مشاعر العداء ضد ألمانيا.
إلا أن النقص العالمي في البضائع بسبب الحرب الكورية في مطلع الخمسينات، أدى إلى زيادة الطلب على البضائع الألمانية، وتضاعف قيمتها في فترة قصيرة.
وكل ذلك كان تزامناً مع امتلاء ألمانيا الغربية بالمهاجرين، الذين لم يخلوا من الكفاءات من ألمانيا الشرقية وغيرها، وتضاعف الناتج الصناعي الألماني أربع مرات بحلول عام 1958.
نهضة ألمانيا سداد الديون وهزيمة بريطانيا
يرى المؤرخون الاقتصاديون أن خطة مارشال الأمريكية لإعادة بناء أوروبا، لم يكن لها أثر كبير في النهضة الألمانية، فعلى الرغم من أن حصة ألمانيا من مخصصات الخطة كانت ضئيلة، بالمقارنة مع حصة بريطانيا.
إلا أن أداءها الإقتصادي فاق بريطانيا بمراحل بعيدة، عند تأسيس السوق الأوروبية المشتركة في عام 1957، وفي عام 1971 سددت ألمانيا آخر دفعة من تعويضات الحرب العالمية الثانية.
ووصل دخل الفرد فيها إلى 19000 دولار حسب أسعار عام 2017، وقدم الألمان مثالاً يحتذى بالعمل الدؤوب لساعات طويلة، بأقصى طاقة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
ووصلت معدلات البطالة في عام 1961 إلى رقم قياسي لم يتجاوز 0.7% من السكان، لتنتقل في بضع سنوات من الدمار المادي والنفسي، إلى سيادة أوروبا إقتصادياً.
ولم تكن النهضة الألمانية الإقتصادية صنيعة الألمان وحدهم، فقد دفع النقص الحاد في اليد العاملة الألمان، إلى عقد اتفاقيات لاستقدام عمال من عدة دول، مثل إيطاليا وتركيا وتونس.
وأصبحت ألمانيا ملاذ الفارين والمبعدين من دول المعسكر الشرقي الألماني، واللاجئين من بقية دول العالم، وهي حتى الآن تفتح باب الهجرة إلى ألمانيا.
نهضة ألمانيا والنساء في بناء ألمانيا
استغل النازيون السجناء والأسرى في إزالة الأنقاض قبل انتهاء الحرب، لإشعار الشعب بأن النصر حليفهم، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
بقيت ألمانيا دون حكومة وطنية تنظم إعادة الإعمار، حتى عام 1948، مما اضطر الأهالي إلى الإعتماد على أنفسهم للقيام بالنهضة الألمانية.
ومع غياب أعداد كبيرة من الرجا
ل بين قتيل وأسير ومقعد، نظمت مجموعات كبيرة من النساء لإزالة الأنقاض، لم تدعم خطة مارشال إعادة البناء، إلا في العاصمة برلين لأسباب سياسية.
إذ وصفها الأمريكان بأنها مدينة رأسمالية، وسط الشرق التابع لنظام الشيوعية، في حين مالت ألمانيا الشرقية إلى البناء الجديد كلياً بمواد جديدة.
حرصت ألمانيا الغربية على إعادة البناء، وترميم المباني ذات الرمزية التاريخية، مثل مبنى بلدية برلين الغربية وأحياء شارلوتنبورغ.
مما أتاح فرص عمل كثيرة فيها، مقارنة بجارتها الشرقية، كما أدت إعادة الإعمار الذاتية والنهضة الألمانية في ألمانيا الغربية، إلى دور أكبر للسكان في إعادة الإعمار.
فقد قاموا بوضع خطط التحديث في عدد من المدن، للحفاظ على هويتها المحلية، ونجحوا في عدة حالات، حيث رفض السكان مثلاً شق شارع كبير وسط برلين، وأجبروا الحكومة على تحويله إلى منطقة واسعة للمشاة.
وعلى الرغم من حاجة فرانكفورت مثلاً للمساحات المكتبية الواسعة، لكونها مركز البنوك، إلا أن سكانها طالبوا بالإعمار الجديد، على حواف المدن وليس في المدن القديمة.
ورغم مطالبة الحلفاء بإزالة المباني ذات طابع الرمزية النازية، مثل مبنى شرطة دوسلدورف، إلا أن الألمان أبقوا بعض من تلك المباني.
في تأكيد على قبولهم المسؤولية الجماعية لمآسي الحقبة النازية، وحولوا بعض السجون التي تم فيها قتل وتعذيب الناس في وقت سابق، إلى متاحف ومعارض، في سبيل قيام النهضة الألمانية الحديثة.
النهضة الألمانية والمعجزة الاقتصادية الألمانية
أطلقت صحيفة التايمز البريطانية في عام 1950، تسمية المعجزة الإقتصادية الألمانية، التي ما تزال صادقة حتى يومنا هذا.
حيث أن ألمانيا هي قوة عظمى بإقتصاد هو الرابع في العالم، وبدخل للفرد سنوياً يتجاوز 49.500 دولار، وهي الثالثة عالمياً في تصدير واستيراد البضائع.
تتميز بمستوى معيشي عال، ومجتمع ذي كفاءة عالية، ومستوى منخفض جداً من الفساد، وأعلى مستويات الإنتاجية للعمال في العالم.
منظومة ضمان إجتماعي، ورعاية صحية، وتعليم، وحماية البيئة، بأفضل المعايير العالمية، وأعلى نسب الإلتزام، وبتدوير النفايات بما يعادل 65% من المواطنين.
تعد ألمانيا موطن أحدث تكنولوجية السيارات، فهي الرابعة عالمياً من حيث إنتاج أحدث الآلات المتطورة، والثالثة في تصدير الأسلحة.
وتملك عدد من أهم المطارات والموانئ في العالم، مثل مطار فرانكفورت وميناء هامبورغ، وتحتل عشرات الشركات الألمانية مركز في قائمة فوربس، لأكبر شركات العالم.
وتعد أكثر من ألف شركة ألمانية، هي الأولى في مجالها عالمياً، وتضم ألمانيا اليوم أطول شبكة من الطرق السريعة، التي لا يوجد في كثير منها حد أعلى للسرعة.
تقود ألمانيا العالم في قطاع الطاقة المتجددة، وفي إبريل من عام 2017 ولدت ألمانيا 85% من طاقتها، من موارد متجددة، الرياح والشمس والماء.
كما أنها تعمل على التخلي عن المفاعلات النووية في توليد الطاقة بحلول عام 2021، يتخرج من جامعات ألمانيا سنوياً، أكبر عدد من طلاب الهندسة والعلوم بعد كوريا الجنوبية.
وتملك أهم مراكز البحث والتطوير في العالم، وفي كل ذلك تعد سابع وجهة للسياح في العالم، إذ زارها أكثر من 436 مليون شخص في عام 2016.
يبدو ماضي ألمانيا شبيهاً بحاضر دول عديدة في الشرق الأوسط والعالم، فهل يكون مستقبل هذه الدول شبيهاً بحاضر ألمانيا؟
المصدر يوتيوب قناة ميدان